الاثنين، 23 ديسمبر 2024

و بسرعة البرق تمضي الحياة


نص جميل خطر ببالي أدهلني ،

تركت كل ما بيدي لأعيد صياغته
وكأني  باليوم بدء  للتو ..... الساعة السادسة مساءً بسرعة
بالكاد وصل يوم الاثنين نحن في ليلة جمعة.
  انتهى الشهر بالفعل.وكاد العام أن ينتهي.
مرت  40  ، 50  بل  60 سنة من حياتي و أطل على 70
ادركت أخيرا  أنني فقدت أحبة  كثر وأصدقاء بدون عد
و أدركت  بل  وندرك أن الوقت قد فات للعودة للوراء
لذا... فلنحاول، الاستفادة القصوى من الوقت المتبقي .
قد نودع بعد لحظة وقد نمضي دون وداع
دعونا لا نتوقف عن البحث عن الأنشطة التي نستمتع بها...
دعونا نضيف اللون الأبيض إلى الرمادي
دعونا نبتسم للأشياء الصغيرة في الحياة
والابتسامة في وجه الأخ صدقة
لنستمر في الاستمتاع بالوقت المتبقي لنا  وبهدوء.
ولنستثمر ما تبقى من رأسمالنا المعنوي
ولنملأ قفتنا بما قد يفيدنا
يوم لاينفع مال ولا بنون
أولا  نحاول القضاء على  مرادفات"اللاحق،
أفعل ذلك بعد...
سأقول لاحقا...
سأفعل لاحقا
سأفكر في الأمر لاحقاً...
نترك كل شيء لوقت لاحق وكأن  الوقت اللاحق مضمون الوصول
لأن ما لا نفهمه هو بعد وقت :
ستبرد القهوة الساخنة
ستتغير الأولويات
  ستمضي الصحة..
وبعد ذلك يكبر الأطفال
قد ننسى الوعود..
قد ننسى أنفسنا
وبعد ذلك يصبح النهار ليلاً..
وبعدها تنتهي الحياة..
وبعد ذلك غالباً ما يكون الأوان قد فات..
لذا... دعونا لا نترك أي شيء لوقت لاحق...
لأنه من خلال الانتظار دائمًا حتى وقت لاحق،

 يمكن أن نفقد أفضل اللحظات،
أفضل التجارب،
أفضل الأصدقاء,
أفضل عائلة...
اليوم هو اليوم...اللحظة هي الآن.
لم نعد في السن الذي يمكننا فيه تأجيل ما يجب القيام به على الفور إلى الغد.
لذلك دعونا نرى ما إذا كان لدى قارئ هذه التدوينة الوقت لقرائتها ، لمشاركتها ، الإعجاب بها التعليق عليها.
أو ربما سيفعل ذلك ...... "لاحقًا"...

السبت، 15 يونيو 2024

إلى روح أعز الناس

 غابت عن دنياي أحلام ،كنت أعيش لها.

و تراودني ٱمال وٱمال 

حاولت تخطي الصعاب ،  

طرقت كل الأبواب 

مستعينا على الدنيا بباريييها 

لكن  ساعة الفراق دقت ،وكلي اشتياق 

و مثل الورق قلبي احترق 

فحكم الله قضى أن نفترق.

لم يعد باليد حيلة و لا دواء 

فقط لحظات من البكاء 

أسرقها ولو على استحياء 

وأجمع كفي ،في كل دعاء 

رحمة الله عليك وإلى لقاء 

في جنات الله ،جنات الخلد و البقاء


 في وقفة عرفات 1445

الاثنين، 30 أغسطس 2021

مشاهد في الذاكرة

 

بالتأكيد كل منا في هذه المجموعة كرس الجزء الأكبر من حياته للخدمة العامة، والعمل لفائدة الناس و التعامل مع الناس وهذا التواصل الاجتماعي الذي عمر ما بين عشرين و أربعين سنة لن يخلو أبدا من مواقف يستوي في ذلك أن يكون ذكرها سعيدا أو محزنا، مؤثرا وعابرا، مرت أحداثه بسرعة أو دامت ساعات أو أيام المهم أن الزمن أبى أن يمسح أثارها من الذاكرة وبقيت ملتصقة بأمكنة غادرناها مند سنين أو أشخاص علقت شخوصهم في الذاكرة وإن نسينا صورهم وأسمائهم أحيانا

مساري العملي عرف عدد وافر من الانتقالات اقتربت من عشرة خلال الأربعين سنة، تركزت بين مدن منطقتي الشاوية و الغرب وكان لي خلالها شرف معايشة بعض المواقف العالقة بالذهن رغم مرور الزمن والغريب في المشاهد الذي سأعمل على سردها لاحقا الذي تحضرني في هذه الآونة أنها مواقف جرت كل مرة مع زوجين محترمين يتعاملان أو أحدهما مع المؤسسة. لذلك سينفرد كل مشهد بعنوان خاص......
متابعة ممتعة أرجوها لكم مع الأمل أن تستفز بعضكم لأثراء المجموعة بمواقف عالقة بالذاكرة

 

  مشاهد في الذاكرة

المشهد الأول / بعنوان : زلة لساني

 

حذت هذا في أواخر الثمانينيات، حين كلفني مدير ص.ج ببنسليمان آنذاك المرحوم ع الدمغي، بمرافقة أحد الزبناء في سيارته لزيارة ضيعته بمنطقة سيدي يحي زعير ، كان بمعية هذا الزَّبُون أمرأه شابة وطفل صغير، مع بداية الجولة قدم لي الرجل نفسه، أنه متقاعد، كان يعمل أطارا في إدارة من الإدارات، فضل أن ينزوي في البادية ليستثمر بعض ماله ويعيش الهدوء الذي حرم منه خلال الأربعين سنة من العمل، واستمر طوال الرحلة يحدثني عن تجاربه ونجاحاته وإخفاقاته وحلو الإدارة ومرها إلى أن بلغنا مدينة بوزنيقة حيت دعاني لنتقاسم طبق شواء، ونحن نتناول الغداء استمر في الحديث لتنشيط الجَلسة و بين الآونة و الأخرى يرحب بي و يحثني على الأكل و الاستزادة، بينما كانت المرأة تطعم طفلها تارَة وتكتفي ببعض القطع تارَة أخرى، وتتابع الحوار بنظرات كلها احتشام و احترام، بعد أن انتهينا من الطعام، زاد مجاملة أن قال لي
السي مصطفى ماكلتي والو .....
فأجبته – لا لا أنا أكلت كفاية ، الدريا بنتك هي اللي ماكالت والو ........
بداية من هذه اللحظة أطبق الصمت ونحن نواصل الطريق عبر مدينة تمارة، وتوقف السيد عن مواصلة سرد بعض الأحداث التي كان بصدد حكيها، ولم أنتبه لزلة لساني إلا ونحن على مشارف منطقة سيدي يحي زعير ، حيث بادر إلى الحديث* عن مشروعه والمتاعب الذي يواجهها مع العمال و المقاول و استرسل قائلا.
- أننا نلق متاعب تكلفنا كثيرا وهذه زوجتي تعيش معي هذه المتاعب و الإنجازات
صدقوني في هذه اللحظة شعرت بحرج كبير، تمنيت كما يقولون لو انفتحت الأرض و اختبئت داخلها.....
 
وإلى لقاء في المشهد الثاني

المشهد الثاني / بعنوان : ومن الغَيْرَة ماقتل.

 

في أواسط التسعينيات كنت أعمل مسؤولا ب ص.م بمنطقة الغرب على بعد كيلومترات من مدينة القنيطرة، من مميزات هذه المنطقة حينئذ أن الأرض يحكمها العرف وليس القانون العقاري وأن للولد الذكر الواحد دور ترجيحي في تحديد مصير الزوجة حيث قد تقصى من حق الانتفاع ولو كان لها عشر بنات، أعتقد أن هذا العرف لم يعد ساريا اليوم بفضل نضال ما يعرف بالنساء السلاليات، كما تتميز كذلك بشيوع ظاهرة تعدد الزوجات ولعل السبب، الرغبة في تكثير الخلفة الذكور للاستفادة من حق الانتفاع من مساحة أكثر من الأرض .
دقت الباب ودخلت امرأة في الأربعينيات من عمرها، يبدو من سحنة وجهها ولكنتها أنها شمالية الأصل، استأذنت بالجلوس، مكثت بعض الوقت قبل أن يفك عقال لسانها، قدمت نفسها أنها زوجة فلان الفلاني، لقرب عهدي بالمكان لم أعرفه بل طلبت معونة أحد المساعدين الذي نبهني بوجود المِلَفّ فوق مكتبي، بعد انصراف هذا الأخير رفعت عينيها إلى الصورة وأشارت أنه هو زوجها، ثم واصلت تشير إلى أنها جاءت لتنبهني منه وأنه شخص مبذر، ويسرف المال في الملاهي و النشاط وأنها ضبطته عدة مرات في دور الفساد وعدلت عن متابعته اعتبارا لبنتهما...و أردفت أن كل الماشية التي بحوزته هي في ملك بعض الأغيار، و الفلاحة يستغلها مشاركة مع بعض أصحاب المال ....واستمرت في استظهار كل السيناريوهات التي حفظتها عن ظهر قلب بما في ذلك حكاية ارتباطهما، وعشقه وولهانه بها واشتراطها عليه عدم الزواج عليها ورغبته الأكيدة اليوم في النكوث بهذا العهد، المهم أنها أوجعت رأسي بالكلام دون توقف باستثناء حين تردني مكالمة في الهاتف أو يلج المكتب أحدهم، ولم افلح في مقاطعتها إلا حين وقفت من مكتبي وتصنعت الرغبة في الانصراف......
كان الخميس هو يوم السوق في القبيلة التي تقطنها هذه السيدة ، ولتسهيل التواصل مع المتعاملين كنا نتنقل إلى السوق حيث خصصت لنا الجماعة و السلطة، قاعة نقضي فيها اليوم و نمارس عملنا بكل أريحية بل نشمل بكرم القبيلة ومودتها، طلبت حضور المقدم و الشيخ، اللذان أفهماني أن الأمر يتعلق برغبتها في منعه من الزواج من ثانية وأنها لذلك تخلق له متاعب عند الدرك الملكي وفي جميع الإدارات.
خلال مراجعتي للملف تبين بأنه من خيرة المتعاملين مع الوكالة، يستفيد بسلفات مهمة ويسدد دوما قبل الأوان، لذلك تم عرض ملفه على اللجنة المعنية التي يترأسها رئيس الدائرة من أجل الاستجابة لطلبه بالإيجاب.
الغريب أنه وقبل إنجاز المِلَفّ، جاءتني مرة ثانية وقبل أن أصدها ظهر زوجها من خلفها، جلسا كزوجين مثاليين منسجمين تغمرهما السعادة، بل أحسبهما نسيا وجودي أحيانا وهما يتراشقان بالأيدي، ويتلاومان ويتعاتبان بحنية وأصبحت تناديه السي الطاهر بعد أن كان في جلستها الماضية الطويهر ....بعد حين سار الحديث ثنائيا بيني و الزَّبُون حول الفلاحة والمنتجات والجهات التي يسوق لها الأرز و الشمندر السكري والماشية وكانت تتابع الحديث وهي تحرك رأسها تأكيدا واتفاقا لما يقول وكلما ركزت النظر فيها أنزلت عينيها إلى الأرض وكأنها برموش عينيها تمحي كلما ادعته قبل أيام وتتلون بَشَرَة وجهها احمرارا وكأني بها تقول " عافاك استر ما ستر الله" المهم تبين من المناقشة أنه من المنتجين الحرفيين الذي علينا تشجيعهم، انتهت الزيارة بأن وعدته باللقاء يوم الخميس لإمضاء العقود و إنجاز المِلَفّ، قام مودعا في حين تثاقلت هي في الوقوف، وانحنت تهم تقبيل يدي، سحبت يدي بخفة وهي تهمس " الله يرحم والديك أسيدي " لم يذهلني تصرفها لأني فهمت أنها تشكرني لعدم إفصاحي عن مضمون زيارتها السابقة لأن ذلك كان سيحرجها وقد يضعف وضعها أمام زوجها.
خرجت في اثرهما دون أن يشعرا وهما ينزلان سلم الدرج، همست في أدنه بصوت مسموع "أرأيت كلما قيل لك من قبل الفتانين كان مجرد كذب وافتراء......"
في يوم السوق علمت انه ثم ترضيتها بجزء من الماشية و اشترى لها محلا للسكن في أحد الأحياء الهامشية للمدينة و المؤهلة للاستفادة ببرامج محاربة السكن الغير اللائق، وأنه سيعقد قرانه بإحدى بنات القبيلة في الأيام القادمة.
وإلى لقاء في المشهد الثالث
 المشهد الثالث / بعنوان :  أطمئني  سيدتي  

 

أعتقد خلال الألفين وواحد عينت لتسيير وكالة على بعد حوالي أربعين كلم عن الدار البيضاء في اتجاه الجديدة، جاءني رجل وامرأة يظهر للولهة الأولى من مظهرهما و تحيتهما أنهما من المغاربة المقيمين بالخارج، جلس هو على طرف الطاولة في حين انزوت هي إلى أقصى القاعة، ومتكئة على جنبها الأيمن ومسندة بالحائط، سار الحِوَار جار بيني وبينه حول الرغبة في إيداع مبلغ من المال وعن الامتيازات المخولة للمهاجرين، في حين كانت هي تتابع الحديث من بعيد دون أي تدخل أو مقاطعة، بعد أن رسا الاتفاق بيننا، استفسرت إن كان المِلَفّ يخصهما معا أو بمفرده أو في اسم السيدة والدته، وكان جوابه بكلمة واحدة مشيرا إلى الجالسة عن بعد : هي ...دون توضيح ثم منحني بطاقة تعريفها الوطنية، أخدت البطاقة وأخبرته أني في حاجة إلى نسخة منها وأن آلة النسخ عندي معطلة، استرجعها مني وقام بخفة شبابية لاستخراج نسخة من متجر في الجوار.
بمجرد انصرافه اعتدلت السيدة في جلستها، لتستفسرني أولا عن إمكانيات السحب و الإيداع وهل المال في أمان وهل يمكن لغيرها، التصرف بأية طريقة في المال المودع، بعد أن أكدت لها أنه في غيابها أو أية وكالة قانونية لا يمكن حتى الإفصاح عن رَقَم الإيداع وفحواه.
 أردفت بنبرة تنم على الغضب وعدم الارتياح ......
- هذا الذي خرج هو زوجي ولست والدته، وأنا أصغر منه بكثير، أعذرك فمعاناتي مع الروماتيزم و الأعصاب و الربو جعلني أبدو كعجوز في السبعين (ابتسمت نصف ابتسامة حزينة …وواصلت)، نحن في أوروبا مند عشرات السنين ......
وكأن المرأة فتحت لي قلبها وسارت تفضفض وأنا أنصت محركا رأسي تارَة ومظهرا الاهتمام تارَة أخرى
فهمت منها أنها سارت تكرهه مند السنة الأولى للحاقها به في الهجرة، وأن استمرارية العيش بينهما تحت سقف واحد كانت فقط لأسباب تتأرجح بين اعتبارات لها عَلاقة بالإقامة أولا ثم بالأولاد الذي كان عددهم يتزايد في حين أخلاقه تسوء وزاد الطين بلة لجوئه إلى لعب القمار وعدم اكتراثه إلى متطلبات الأسرة مما زاد من انتقال مشاعر الكره إلى الأولاد وعددهم ثلاث ذكور غادروا بيت الأسرة تباعا بمجرد بلوغهم سن الرشد إلى جهات متعددة وبقيت محرومة من رؤيتهم مند سنين لآنهم يرفضون ملاقاته.
وأنها مع ذلك كانت تدخر المال في المهجر من جهد عملها في البيوت، واشترت ارض فلاحية جهزتها ببنايات وسكن، واشترت عدد من الأبقار ورؤوس الغنم لاستثمار، في انتظار العودة النهائية عند بلوغ سن التقاعد، لكنها لاحظت انه كلما تركها وعاد إلى المغرب إلاّ أخبرت بفقدان جزء من القطيع وتعمل مع ذلك على إرسال المال للحارس من اجل تعويض العدد النافق، لتصدم في هذه الزيارة انه هو الذي يبيع البهائم ويبدر المال في نزواته الصبيانية، لذلك باعت الأرض والعرض وتريد الاحتفاظ بالمال في مكان آمن في انتظار أن تتضح لها الرؤيا، وفي الغالب ستطلب الطلاق.
وهي تحكي بغضب تنعته بكل الأوصاف بل تلجئ إلى الفرنسية، لرشقه ببعض النعوت و الشتائم التي يصعب أخلاقيا سماعها أو استيعابها و استساغها بالعربية فهو حسب وصفها رغم الشيخوخة التي بدأت تدب في عظامه، يحتفظ ببقايا وسامة عالقة ببشرته وقوامه، هذه الوسامة تجمع حوله بنات و شباب في عمر أولاده، لكنه ليغطي على ضعفه يجد حلوله في تبذير المال كيف ما اتفق...
بمجرد سماع صوت خطواته تقترب من الباب، عادت إلى وضعها الأول، وعاد هو إلى مكانه محتفظا بابتسامته، ومبررا تأخره إلى عدم وجود صاحب المتجر المجاور ليبحث عن آخر في الحي المقابل....
بقيت ملاحظتين راسختين في ذاكرتي الأولى أن سنها فعلا لم يتجاوز بعد آنذاك الخمسة و الخمسين، الثانية أني بمجرد إتمام ملأ وطبع جميع الوثائق اللازمة، هم الرجل بتحويلها لها في مكانها المنزوي، قاطعته بسرعة في الاتجاه المعاكس وأخذت مكانه على طرف مكتبي وسارت تدقق وتسأل عن كل وثيقة قبل توقيعها.

 

وإلى لقاء في المشهد الرابع
 المشهد الرابع / بعنوان : أطال الله عمرك سيدتي

 

 في هذا المشهد أجدني قد نقلت إلى مدينة أخرى تبعد حوالي خمسين كلم عن الرباط، موقعها الساحلي جعلها تتأرجح بين التبعية لمديرية جهة الرباط تارَة و سطات تارَة أخرى، تتميز هذه الوكالة أنها في ملكية المؤسسة وتحتل مساحة تتجاوز ثلاثمائة وخمسون متر مربع، يستغل المدخل كبهو متسع مخصص كقاعة انتظار وضمنه قاعتين بجدران زجاجية مقواه بالألمنيوم وعليها ستارة معدنية لحجب الرؤيا نسبيا ...
بخصوص الزمن اعتقد أننا في سنة ألفين وسبعة، الزوجة زبونة قديمة للوكالة، لها أملاك وأراضي فلاحية ورثتها من أبيها الذي كان من أغنياء هذه المنطقة، الزوج يشتغل موظف بإحدى الإدارات العمومية ويقطنان بجهة الحوز حيث مقر العمل.
كنا بصدد اللمسات الأخيرة للإنجاز مِلَفّ يتعلق باستثمار عقاري، من توقيع سندات الدين وبعض التعهدات، ولما همت بتوقيع عقد التأمين، استفسر الزوج عن طبيعة هذه البوصلة بما أنهما سبق أن أديا قسط تأمين عن العَقَار لدى شركة خاصة، وعقبت هي أيضا
- لاصورانص ياك خلاصناه عند شركة س
أوضحت لهما أن الأمر هنا يتعلق بالتأمين على الحياة و العجز الكلي أو الجزئي
التفتت صوبه وكأنها لم تفهم و تريد توضيح أفصح، فعقب هو مبتسما
- هذا التأمين على الحياة، في حالة إذا توفيت أو أصبت بعجز، فأن شركة التأمين ستسدد الذين.
فخنزت فيه تخنزيرة خنزير، وقامت وكأنها أصيبت بمس جن، وهي تردد بأعلى صوتها
- نموت، هاذ الشي اللي بغيتي، الله يحفظني، برا وا لباس علي وعلى وليداتي، تموت أنت ويموت عدويا و اللي ماييغيني .........
ثم انصرفت وهي تردد نفس المقطوعة وقد نسيت أو تناست أن المكان لا يحتمل الضجيج، و خلقت بذلك ضوضاء ، وجلبة شدت لها أنظار حضور القاعة بل حتى أسماع الفضوليين من جلوس الرصيف و المقاهي المجاورة....
لبث الزوج في مقعده، وعيناه اتجاه الأرض، ثم قدم اعتذاره عن تصرف زوجته، وغادر المكان شبه مغمض العينين من شدة الحرج تاركا وراءه همهمة وهرج ومرج .
مر على هده الواقعة يومين، ثلاثة أو أكثر ، ذات صباح وبينما كنت في حديث مع أحد الزبناء ، لفت نظري دخولها للوكالة لتحتل مقعدا بين المنتظرين ......بعد أن حل دورها، تقدمت نحوي وهي تمشي على استحياء، جلست و الحزن والضيق والحرج باديان على وجهها، قطعت حبل الصمت مرحبا بها، ومستفسرا عن موضوع الزيارة، ابتسمت ابتسامة حزينة تنم على ما تشعر به من حرج نتيجة تصرفها السابق، بقيت منحنية الرأس وقد علا الاحمرار وجهها ....
- السي المصطفى، المِلَفّ فين وصل ....
- هاهو باقي في مكانه
- هاديك الورقة ديال لاصورانص عفاك ...
أعدت إدخال البيانات إلى التطبيق، واستخرجت عقد التأمين من جديد، وأشرت إلى الإطار المخصص للتوقيع .....أرجعت إلي العقد، ثم عادت إلى هيئتها الأولى ...عندها أخبرتها بأن مبلغ التمويل سيحول إلى حسابها بعد لحظات، مع ذلك التزمت مكانها دون حَراك ...من قسمات وجهها فهمت أنها تتردد في الإفصاح عن شيء ما، انحنت اتجاهي والحرج لازال باد عليها، لتقول
- السي المصطفى عافاك، بغيتك تتصل بالسي .....، وتخبره ....، رأه سافر من ذاك النهار، ولا يجيب عن الهاتف
مدتني بورقة عليها رَقَم هاتفه.رن هاتفه وقبل أن يجيب، أشارت إلي بيديها ألّا اخبره أنها في الوكالة وأنها من طلبت مني الاتصال به ..
تمت المكالمة بيننا وأشعرني أنه سيعود من سفر بعد أيام، وبالفعل بعد حوالي أسبوع دخلا المؤسسة، وأشارا إلي من بعيد واتجها ناحية مصلحة الحسابات ......

وإلى لقاء في المشهد الخامس

المشهد الخامس : بعنوان / عندما تتغلب العاطفة على المهنة

كما أشرت في المقدمة أن السرد الذي يحضرني في هذه المشاهد هو لمواقف جرت كل مرة مع زوجين محترمين أحدهما أوكلاهما يتعاملان مع المؤسسة، في عدد اليوم و بصرف النظر عن الزمن و المكان ندخل توا في جوهر المشهد

الزوجين وإن كانا يتمتعان بحظوة اجتماعية محترمة ومتميزة داخل المدينة، فقد لاحظت خلال لقائي الأول بهما مند سنة أو سنتين مضت، أنه رجل نرجسي، كثير التدقيق لا يتوقف عن التعقيب عن كل كلمة أو مصطلح مما كاد يصعب مهمتي في إيضاح شروط وآليات المشروع العقاري اللذان رغبا في الاستفادة منه و على النقيض كانت هي تسمع وتستوعب قبل أن تستوضح لتطرح تساؤلات واضحة و مركزة جعلت سبل الفهم و الإقناع ميسرة للطرفين.

عندما دخلت السيد س و جلست على الكرسي المقابل، بادرتها إلى السؤال عن الحاج و الأبناء غير أن جوابها اقتصر على الحديث عن الأبناء، وتفوقهم الدراسي و المؤهلات و الآفاق.... ثم دخلت مباشرة في موضوع الزيارة لتستفسر عن أمور تتعلق بذمتها المالية بما في ذلك جاري القروض، و الرصيد الحاصل والعروض الممكنة، وحين همت بالانصراف، كلفتها أن تبلغ سلامي إلى الحاج، عادت إلى مقعدها واستوت في جلستها ثم حدقت في وعلى محياها ابتسامة حزينة وقالت :

- أنا وفلان صافي انتهينا (ولم تقل الحاج فلان كالعادة) .....ترددت قليلا قبل أن أواصل

- مافهمتش .....

فقدت رباطة جأشها، وتركت العِنان للدموع تذرف غزيرة من عينيها

- نحن على أبواب الطلاق

كان للمفاجئة وقع الصدمة على نفسي وبدوري لم أستطع امتلاك شعوري وسارت الدموع تنهمر من عيني أيضا فأنا أصلا لي عاطفة جد هشة ، زاد من هشاشتها انطباعي الجيد عن هذه السيدة ومدى تقديري واحترامي لها، تداركت الموقف تجنبا لأثارة انتباه الفضوليين، مسحت دموعي ومنحتها منديلا ورقيا ......

لاحظت المسكينة بلا شك تأثري الشديد بظروفها ففتحت لي صفحات من معاناتها مع الزوج و أسرته، صمتت لبرهة ثم أطلقت تنهيدة عميقة، وقالت بأن عشرين عاما من الزواج أو يزيد لم تكن كافية لتخلق ثقة وطمأنينة لدى فلان الذي يشك في كل تصرف وكل كلمة يسمعها فله دائما اليقين بأن وراءها قصد ووراء كل نظرة مغزى ، ، بل أن كثرة الشك تصل دروتها أحيانا حين يصاب بمغص معدي أو ألم في الرأس، حيث يلمح دون غضاضة إلى أن مصدره قد يكون شيئا ما دس له في الطعام (تتوقف قليلا لتجفف ماعلق بعينيها) وتضيف أن كل هذه التصرفات كانت تتحملها وتتكتم عليها باعتبارها أسرار أسرية، الزمن كفيل بعلاجها خاصة وهي تحرص على خلق جو ملائم للأبناء يساهم في استمرارية إشعاعهم وتفوقهم الدراسي الملموس، بل تصبر على هجره لهم و الاستقرار لأيام و أسابيع في شُقَّة أسرته بالطابق الأعلى،

(تهدئ ثم تسترسل بألم) أن كل ذلك كانت تتحمله وتصبر عليه مادامت تعتبره ثنائيا بينهما إلا أن الأمر استفحل ولم يعد يطاق حين أدركت أن الأمر خرج عن نطاق الخصوصية فقد  بدأ يتناهى إلى سمعها همس و همز و لمز من نسوة اسرته قاطنات الطابق الأعلى بل سار الأذى ينتقل إلى إشارات علنية ، اختارت بعدها الانتقال مع أبناءها  إلى سكن مستقل يؤمن لهم الهدوء والهناء و الاستقرار في حين اختار هو رفع دعوى الرجوع إلى بيت الزوجية

انصرفت بعد أن تأسفت لما سببته لي من تكدر و عن الوقت الذي شغلته لتفضفض لي فيه عن بعض أحزانها، تمنيت الله لها أن يجعل لها بعد الضيق مخرجا و من الهم فرجا و من البلاء عافية

مرت على هذا أيام كانت خلالها أحيانا إدا سمحت الفرص تطلعني على بعض مآلات الدعوى، إلى أن حضرت ذات صباح ، وأخذت مكانا في الاتجاه المقابل للباب الرئيسي للمصلحة، وبينما كنا نتداول إمكانيات استفادتها من بعض الخِدْمَات لاحظت فجاءة احمرار طلا وجهها وحالة ارتباك ظاهرة عليها مما قد حجب التواصل بيننا، التفتت لاختلاس نظرة في عمق القاعة عبر الستائر المعدنية للزجاج الفاصل لعلي أفهم مصدر الانزعاج، فقد كان هو من بين الحضور على مرمى حجر منا، ولعله يسترق إيماءاتنا من بعيد، تابعت الحديث معها وكأني لم أره، لكن الحرج و الارتباك بلغا مداهما فيها فاقترحت تأجيل الموضوع و انصرفت .....

لن أغلق هذا المشهد قبل أن أؤكد أنه على الرغْم من تعاطفي الإنساني مع هذه السيدة المحترمة فقد التزمت الحياد واستمرت علاقتي بالحاج فلان كما سبق بل انه كذلك استغل مرة تواجده عندي ليدخل في الموضوع دون مقدمات ويبرر انفصاله بها لأسباب حاولت إفهامه أنها واهية وحاول إقناعي بأنها جدية.

وإن طال بيننا الحِوَار ودام، فعن حكم الأرزاق في الطلاق انتهى الكلام، وأنها دوما أم الأبناء بحق رب الأنام، وأنه ملزم بأن يكن لها كل الاحترام ، وبفلذة الأكباد يهتم والنفقة في هذا المقام، وأقول في الختام، عند ربهما يفض في الخصام ..... 

وإلى لقاء في المشهد السادس

المشهد السادس: بعنوان / للبيوت أسرار


مشهد هذا العدد قد يختلف عن المشاهد السابقة، وهو طويل إلى حد ما وقد يتبادر إلى الدُّهْن من شخصياته وأسلوبي السرد و الحِوَار، وتمحور الأحداث بين العقدة و الحل أنها من نسيج الخيال والواقع أن حياتنا كلها لا تخلو من لوحات مستوحاة من الخيال لذلك فإن روح هذا المشهد تمثل أحداث معاشه لا تخلو من بعض اللمسات التي أضيفت أو غض الطرف عنها لظروف تتعلق بضرورة طمس معالم أخطاء الكشف عن أسرار المهنة
أذكر كما في السابق أن بطلي المشهد دائما زوجين محترمين يتعاملان مع المؤسسة، الزوج يمارس التجارة بالجملة ونصف الجملة في مواد رائجة وطبيعة هذه المواد تقتضي تحريكا سريعا لدورة رأس المال مع تعدد مصادر الإيراد و التوزيع وهذا يقتضي بالضرورة تواجده الكثيف بالمصلحة، أما الزوجة فهي موظفة بالمقر المركزي لمؤسسة اقتصادية كبرى متواجدة بالعاصمة، مما يجعل تواجدها بالوكالة خلال أوقات أو أيام العمل شبه مستحيل، شخصيا لم يسبق لي شرف التعرف عليها وإن حصل ذلك فلا أتذكره بل إن صورتها في مخيلتي منعدمة، وعلى هذا فزوجها هو الذي يقوم مقامها في تصريف جميع شؤونها في علاقاتها بالمؤسسة بمقتضى وكالة ممنوحة له في هذا الصدد، مما يتيح له أحيانا الاستعانة برصيدها لتحويل مبالغ مالية للإتمام مؤونة تغطية بعض حاجيات حسابه التجاري .....
رزقهما الله بنت وولد يتقاربان في العمر و المستوى الدراسي يتابعان الدراسة في إحدى الثانويات الخصوصية.
في صباح يوم اثنين بينما كنت منهمكا في بعض شؤون العمل، توصلت بمكالمة من مجهول على هاتفي الخاص، فانطلق الحوار كالتالي
- ألو السلام عليكم
- وعليكم السلام السي مصطفى كيف الأحوال
- الحمد الله بارك الله فيك
- أنا فطومة م
- نعم سيدتي كاين شي مانقضيوا
فهمت من ردي أنها لازالت نكرة لي، فكررت ذكر اسمها )صمتت لحظات ثم واصلت) أنا فطومة م زوجة فلان الفلاني س
- أهلا مدام كيف الحال تشرفنا
استأنفت بعد ذلك بالسؤال عن رصيدها، وحركة حسابها بين اليوم والجمعة الفارط، ثم عن حالة مديونيتها بين العقاري و الاستهلاكي وإمكانيات تسديد القرضين لتنتقل إلى فرضية رغبتها في نقل ملفها بالكامل إلى مدينة أخرى، ثم تكشف في النهاية عن غرضها من الاتصال حين تقول:
- في الحقيقة السي مصطفى، علاقتي ب س زوجي متدهورة هذه الأيام وقد نصل إلى الفِرَاقَ، لذلك بغيث نستشر معك، أنت عارف هو عندو وكالة التصرف في حسابي، وأعتقد خصني نلغي الوكالة ........آش أظهر ليك
- سامحيني سيدتي هذا أمر يصعب علي إبداء رأيي فيه .....
عم الصمت بيننا للحظات انتظرت من خلالها أن تنهي المكالمة، حيث لازال يصلني عبر التيار صفير أنفاسها القوية و المتوترة، ثم انتابتني حَيْرَة و ارتياب عن دافع هذه القطيعة المفاجئة بل الخَشْيَة من أن يكون في الأمر استعمال بسوء نية قد تكون للمؤسسة مسؤولية فيه، وكأنها أدركت هواجسي فسارعت إلى تبديدها قائلة
- صدقني السي مصطفى، لا شك عندي في نزاهته ولا في أمانته ولكن (تواصل كلامها مع نوع من التردد في الإفصاح عن السبب) مجرد سوء تفاهم ناتج عن تصرف لم يعجبني وعن طبعه العصبي و أنانيته التي ترفض المناقشة
- في الحقيقة أختي مازال مافهمتش ، إلى ماكانش فضول مني، وإلى ماكانش السبب شخصي جدا واش يمكن نعرف السبب
- والو أسيذي خلاف على الشغالة ديال الدار ، هاد الدريا عندنا مند أكثر من عشر سنوات هي من قبيلتي جبتها بنت خمسة عشر عام تقريبا هي اللي ربات الدراري ، نهار الجمعة خرجت أنا للعمل كالعادة مع أدان الفجر هواللي وصلني للمحطة القطار، مع حوالي العشرة اتصلت بيا من التليبوتيك ، كاتبكي وقالت (بأنه جاء مع العشرة الصباح للدار وهي في الشغل، وقال ليها تجمع حوايجها بسرعة ، وخاد منها البورتابل وضربو مع الأرض هرسو ، خدا منها السوارت وهزها في السيارة حتى للمحطة الطاكسيات، عطاها فلوس الشهر و المركوب ومشى( ...
تتوقف لحظة وكأنها تستجمع قواها لتضيف أنها حاولت الاتصال به مرارا لمعرفة السبب وما جرى ولكن دون رد، لا أخفي أن رنة صوتها و طريقة سردها للواقعة جعلاني كذلك أشعر بأن عدم جوابه على هاتفها ضاعف شكوكها و ارتيابها وجعلها ترسم للحادث عدة سيناريوهات.
- تصور السي مصطفى من الجمعة في الليل حتى اليوم الأحد و أنا كنكرر السؤال لمعرفة السبب وهو يتهرب بل يترك البيت الساعات الطوال ليتجنب المواجهة معي، وفي النهاية أتصلت بأمي في البادية لعل الخادمة تكون قد زارتها وعرفت منها السبب، ثم أصريت على نذهب سوية للعشاء عند أسرتي في البادية.
وتضيف أنها بعد وصولهم إلى دوار أهلها ورسو المقام انتهزت فرصة انشغال الرجال في الخوض في حوار بينهم لتنسل عند أمها ليتجاذبا أطراف الحديث عن الواقعة باعتبار الخادمة من أقرباء أمها، حينها أخبرتها أمها أنه بعد اتصالها بها بالهاتف، استخبرت عنها لتعلم أنها فعلا حضرت إلى بيت أسرتها هذا الصباح لكن لا أحد تحدث عن الطرد أو الخصام ..... و حدرتها أمها من إثارة الموضوع قبل تناول العشاء
ثم تستطرد قائلة أنها بمجرد أن ذكرت أسمها بعد ذلك استشاط غضبا وكاد يمد يده عليها لولا أن حال بينهما ابنهما، دون أن يعطي أي اعتبار لا لأمها و لا لأخويها ولا لأبنائهما، وانتهت السهرة بأن أقسمت هي بأغلظ الأيمان بأن لن تعود له زوجة.، وباتت ليلتها في بيت أهلها وغادر هو رفقة أبنيه، وصبيحة اليوم التالي الإثنين اعتمدت على النقل العمومي للوصول إلى مقر عملها.
- آش اظهر ليك السي مصطفى ...
الحقيقة أنه استعصت علي النصيحة وقد زاد يقيني بأن صدر الأخت قد ملأه الشك وإن لم تفصح عن ما يخالجها علانية ولكن ما وراء السطور يوضح ما لم يذكره اللسان...
-أختي الكريمة فهمتك وفهمتك بزاف ولكن الأمر كيتطلب الصبر و العقل يمكن داكشي اللي فراسك بعيد عن الواقع، نصيحتي خلي المؤسسة ديالنا بعيدة عن النزاع، حيث إخباره بفسخ الوكالة يمكن يخلق مشكل بينكما من لا مشكل، لذلك خللي الأمر ضيق داخل الأسرة على الأقل أسبوع أو يومين، ومن بعد نتواصلو ،
- أودي آش غادي نقول ليك واخا
- ياالله أنا ماسمعت والو ما قلتي لي والو،
ضحكت، ضحكة مسموعة فيها رنة ألم، وانتهت المكالمة.
ويوم الثلاثاء الموالي اتصلت بي السيدة تقريبا في نفس توقيت أمسِ، ويبدو من نغمة صوتها أنها منشرحة
- ألو السلام عليكم، الأخت فطومة
- عليكم السلام و رحمة الله، اليوم عرفتيني بسرعة ،
- ايوا آش من جديد كانحس بيك فرحانة ...
- شوف السي مصطفى اسمح لي نقول ليك موقعك ماشي في هاديك المؤسسة، أنت مختص نفساني، مصلح اجتماعي، المهم شي حاجة من هذا القبيل ، كانشكرك بزاف 
- الحمد الله وقع الصلح بينكما
ردت بالإيجاب وواصلت بعد ابتسامة بأن الحكاية حكايات ثم شرعت في سرد الأحداث من لحظة انتهاء مكالمتها معي إلى المساء حيث إن هاتفها لم يتوقف عن الرن مند قطعت الاتصال و كانت تصر باستمرار على عدم الرد على مكالماته، و في حوالي الساعة الرابعة دخل عليها ولدها في مكتبها، وبعد معاتبتها عن عدم الرد على هاتف أبيه، اخبرها أنه برفقة أخته ينتظرانها بباب الإدارة، وهو مصر في حالة عدم الاستجابة لنداءاته أن يصعد إلى المكتب و قد يحرجها أمام جميع زملائها، وعندها تناول الابن هاتف أمه واتصل بأبيه، ثم منحها الهاتف و انصرف، وهكذا بدئ بالاعتذار عن ما سلف ووعدها بتوضيح كل الأمور بمجرد العودة إلى المنزل.
توقفت لحظة استرجاع النفس ثم واصلت بأنها التحقت به فعلًا بعد انتهاء وقت العمل، وأصرت على الجلوس بالمقاعد الخلفية في حين أخد ابنهما مكانها بالمقعد الأمامي، ساد صمت رهيب خلال فترة السفر التي دامت حوالي خمسة وأربعين دقيقة وكانت تشعر بها الأطول على الرغْم من اعتيادها على قطعها يوميا،
بعد وصولهم أمام البيت، ترجل الأولاد قاصدين البيت، في حين أخد هو بيدها وولجا المتجر المواجه لمنزلهما، انتظر إلى أن فرغ صاحب المتجر، وتسلل في عمق المتجر ملوحا إليها أن تتبعه، أعطاها كرسي وجلست وهي منبهرة، لحق بهما التاجر، فبادره زوجها قائلا
- السي الحسين عافاك ، عاود ليها القصة
حسب رواية التاجر أن هناك أشياء مريبة كانت تحدث عند غياب أفراد الأسرة بين الخادمة و ح ولد الحاج فلان،(الحاج فلان هذا هو اسم معروف بالمدينة وهو ابن عمة زوجها السيد س وشريكه في التجارة) لاحظ التاجر مرارا و تكرارا دخول ابن الحاج إلى البيت ومكوثه لساعات، و واجب الجيرة و الطعام حتما عليه تنبيه السي س لمراقبة الأمر، شريطة تسوية المسألة دون إثارة أية ضجة قد تكون لها آثار سلبية على سمعة المحل التجاري نفسه).
وهكذا فهمت فطومة جزء من القصة فودعا التاجر السي الحسين وشكراه ووعداه أن يستمر الأمر في طي الكتمان بينهم.
بعد العودة إلى البيت انفردا بالطابق السفلي وهو قسم من البيت نادرا ما يلجه غيرهما، حيث أوضح لها الجزء الباقي من القصة.
وإن كان قد قرر الترصد لمراقبة صحة شكوك التاجر فقد شغلته بعض المعاملات التجارية ليصل أمام البيت في وقت خروج الشاب ح حيث لحق به ليسأله عن سبب تواجده بالمنزل، فأخبره بسرعة و دون وجل أنه كان يريد ولده فلان وأخبرته الخادمة أنه غير موجود فانصرف، لكن السيد س أفهمه أنه على علم بالقصة وقد جاء خصيصا لضبطه متلبسا وأنه إن أصر على الأنكار سيخبر الحاج أبوه، وأن لديه الشهود على ما يقول، تملص الشاب من بين يدي السيد س وانفلت مسرع الخطوات، وعندما دخل إلى البيت، وجد الخادمة وهي تهم بمغادرة الطابق الأرضي بمجرد سماع صوت المفتاح، فباغتها بالسؤال أولا عن سبب تواجدها بالطابق السفلي وهي تعلم أن ولوج الغير إليه استثنائي بل نادر جدا و بينما هي تتلعثم في الجواب عاجلها بسؤال ثان عن سبب تواجد ح ولد الحاج في البيت، فأنكرت وسارت تقسم بكل أولياء القبيلة أنها لم تره مند ليلة حضوره للعشاء مع والديه، وهنا انتهت قصة طردها من البيت.
ومن غرائب الصدف أنه في الوقت الذي كانت تحكي لي هذه التفاصيل، دخل زوجها س إلى مكتبي وأشار إلي محييا بيده، ورددت التحية بصوت مسموع
- وعليكم السلام السي س الفلاني
ثم أخد كرسي و جلس ... فهمت هي الإشارة وختمت اتصالها قائلة
- السي مصطفى مانوصيكش ....
فهمت ماتعنيه وطمأنتها بسرعة
- سيدتي سرك في بئر ... يا الله السلام عليكم
التقط السي س جملة سرك في بئر، لينهض من الكرسي متجها إلى قسم المحاسبة وهو يردد
- وااسمعوا الفقيه، يقول لمحدثته سرك في بئر، فماهو سرهما يا ثرى
عمت ابتسامة عريضة في ارجاء المكان، وتباينت التعليقات وبعد أن أتم ما كان بصدده لدى مصلحة الحسابات، عرج علي وهو يغادر المؤسسة.
- ماقلتيش لينا شكون هاذي اللي سرها في بئر
ابتسمت وأجبته

- السي س للبيوت أسرار كما للبيوت أسوار

وإلى لقاء في المشهد السابع


  المشهد السابع  / بعنوان : على شفا الفَرشة 

عنوان مثير بدون شك، نقول على شفا حفرة بمعنى على وشك السقوط، أما الفرشة بفتح الفاء فهو مصطلح لم أجد له مكان في لسان العرب، بل تداوله في لغتنا العامية يعني كشف المستور ونقول لفلان فرشتيها بمعنى أسأت التصرف،  وندعو من لا يكثم السر : أسيدي أحمد الفرشة.

أظن أن العنوان قد بان وهي مشتقة من البيان، بقي أن نرفع الستار عن  مشهد اليوم، وبطليه كما حال المشاهد السابقة زوجين محترمين يتعاملان مع المؤسسة.

 عقب تعييني في هذه الوكالة بأيام قليلة تشرفت باستقبالهما وقد أتيا حسب تصريحهما للتعرف علي أولا بعد أن حدثهما أحد عني أو بالأحرى عن مرونة المؤسسة في التعامل مع نوعية مشروعهما وثانيا لمناقشة مشروع عقاري وحسب حدسي فالغرض هو مقارنة عروض المؤسسة مع باقي المؤسسات التي دون شك طافا عليها.

يستشف (بضم الياء)من تقديمهما لشخصيهما أنهما في الأربعينيات من العمر، ينحدران من منطقة واحدة، جمعتهما المدرسة ثم الكُلْيَة، اختارا العمل في نفس المجال وإن تفاوتت درجتي اختصاصهما، حيث أنه أعلى منها في سلم العمل بدرجة أو درجتين.

 أسفر هذا اللقاء عن تطابق الإيجاب بالقبول بيننا، بفتح مِلَفّ لكل منهما والموافقة على تمويل مشروعهما بنسب متساوية،

وخلال مواكبة إنجاز المشروع كان لي شرف زيارة الورش ثم البناء فمتابعة الأشغال النهائية،

كما حصل لي الشرف خلال أحدى المعاينات أن استدعيت لمائدة شاي مع الزوجين وابنيهما، وكانت فرصة لاطلاعي على السكن الجميل  وطوافي على مكوناته ومحتوياته وكانت كل غرفة مجهزة بالأثات و الأفرشة المناسبة، من صالون وَسَط الدار بديكوره الأوروبي و غرفة الولدين بما تحويه من متطلبات النوم و الترفيه و الدراسة  كما شد انتباهي غرفة النوم بفراشها وانسجام ألوانها، وهي مزينة بصورة كبيرة الحجم للزوجين وهما عروسين هي  في فستان الزفاف بزيها الأبيض الجميل وهو ببدلة أظن سوداء  يزيدها رونقا قميص أبيض ، كما أن تقارب طولهما وسمرة لونهما أعطيا للصورة جمالا وهي زادت المكان بهجة و كمال ...

مرت سنتين أو أكثر  على دخول الزوجين في عَلاقة مع المؤسسة، وكلما احتاجا خدمة أو مصلحة يحضران سوية ليملآ المكان ابتسامة وبهجة تنم على ما يعيشانه من سعادة و تفاهم، ثم بدأت هذه المرافقة تخف و تقل شيئا فشيئا، وأخيرا أصبح كل منهما يأتي بمفرده، شخصيا عللت السبب لاختلاف في جداول وبرامج عملهما ...إلى أن حضرت يوما و الوقت يكاد يكون ظهرا، الحرارة مفرطة، المكان يخضع لأشغال إعادة التهيئة و الترميم، وقد آثرنا مواصلة العمل في الموقع رغم الضوضاء و الغبار  ....

جلست و الحزن باد على عينيها وجه شاحب تطغى عليه صفرة ولامبالاة في شكل وتناسق الهندام، بادرتها بالسؤال عن حالتها الصحية، الزوج و الأبناء ....

- كلهم بخير و أنا أعاني معهم جميعا، هو لست أدري من غيرته علي، وهما مصممان على متابعة دراستهما بالخارج، وتركي وحيدة مع حظي المشؤوم.

- واه أنا أعرف بأن علاقتك بالسي  راء طيبة ونموذجية ويحكمها تاريخ مشترك وعلاقة وطيدة

- لست أدري من الجنية التي غيرته علي، وقلبت حياتنا رأسا على عقب..........

تضيف بصوت خافت، رغم دقات المطارق وضجيج البناء والأصوات المتتالية لآلات النقش و الحفر والنجارة، و هي  تتحاشى أن يبلغ صدى بوحها  غيري وأنا أبدل جهدا لالتقاط كلماتها بل أحيانا أصيغ الفهم تبعا للقسمات  أو مخارج الحروف، »أنه مند أكثر من ست أشهر انقطعت كل الأحاديث بينهما، وأصبحت علاقتهما تحكمها الأرقام والحسابات عن كل مصاريف ونفقات البيت، ولم يعد هناك حديث سوى ما يفرضه العيش تحت سقف بيت أو مصلحة الأبناء، وأن الأبناء وإن كانا يستنكران ما يحدث فهما يصران على عدم التدخل رغم إصرارها وتوسلها لهما على الأقل لمعرفة السبب، وفي النهاية للخروج من هذا النفق اتفقا على الهجرة إلى الخارج لمتابعة الدراسة العليا، وما يشغلها الآن هو كيف ستستمر علاقتهما عندما يبقيا وحيدين في البيت ......« توقفت تستجمع قواها، ثم استرقت نظرة اتجاه شاشة الحاسوب المتواجد على يساري; وكأنها تريد مخاطبته أو كسب وده  وتواصل   »مشكلتي اليوم هو ضرورة التوفر على نصف المبلغ المتعلق بالكفالة البنكية لاستكمال مِلَفّ التأشيرة « 

فهمت ما تقصده ودخلت توا على النظام المعلوماتي، لمعرفة  إمكانيات التمويل الممكنة،  والتي خولت لها فعلا  الاستفادة من المبلغ المطلوب، ثم وعدتها أنه سيكون رهن إشارتها خلال اليومين القادمين، ودعتني وهي تردد بصوت منخفض "يكون خيرا إن شاء الله "…

بدوره السيد راء جاء في اليوم الموالي رفقة ابنيه غير أن المكان كان لا يسع الجميع فخرج أحد الابنين بعد أن حياني وجلس الثاني قبالة أبيه........

 على عكس عادته يبدو  السيد راء  اليوم  متذمرا و أكثر جديا ورزانة،  بدون مقدمات طلب معلومات حول فتح ملفين لولديه و تحويل مبالغ مالية لتغطية مصارف كفالة بنكية تخول الحصول على تأشيرة السفر للدراسة بالخارج، سجل  الابن نقطا في الموضوع ثم استأذن بالانصراف  ليلحق بأخيه لمباشرة جمع الوثائق المطلوبة، في حين استمر السي راء في مكانه، نظر إلي  بعمق  ينم عن الحسرة و الأسى وقال.

- شوف السي مصطفى أنانية الأبناء، فهما عارفين البير و غطاه عارفين الديون اللي علينا، عارفين المصاريف اللي تحملناها  ماشي غير في الدراسة بل في توفير الأمكنة و الظروف المناسبة للعيش شوف شحال حرمنا أنفسنا من أشياء من أجلهم، واش أعباد الله على قلة المدارس في المغرب، ولكن الخطأ في التربية، الأم مفقودة ضعيفة، الله يرحمك يا أمي  رغم أنها أمية كانت راجل و امرأة هي اللي كانت واقفة بحزم على توجيهنا وتربيتنا أحسن تربية، في حين كان الأبُ الله يرحمه منكب على تجارته وتصريف أموره، يكتفي بمدها بالمصروف الشهري، الذي تتصرف فيه كمحاسب محنك،  السي مصطفى مانكدبش عليك أنا فاض بيا ومليت .....

  نهض متثاقلا ثم غادر المكان وهو يردد عبارات تنم عن عدم الرضى ولومه الشديد لزوجته التي يرى أنها ربت ابنيها على الفشوش.

مرت أيام أو شهور لا أدري المهم زمن غير قصير، بينما كنت أهم بدخول المؤسسة بعد عودتي من مهمة، صادفتها بالباب وهي بصدد المغادرة، فعادت أدراجها معي لحاجتها لمعلومات حول بطاقة الائتمان الذي بدأ الترويج لها عبر وسائل الإشهار و الأعلام، ونحن نتداول الأمر سألتها عن ماجد في علاقتها بالسي راء، ابتسمت ثم ضحكت والضحك لايدل دائما عن الغبطة و الفرح قد يكون نابعا عن الحزن والقلق …ثم قالت :

- ماقلتش ليك حنا مابقيناش زوجين أصبحنا جارين، هو اختار لنفسه الانعزال  في الطابق السفلي، حيث يعيش حياة العزاب، وأنا بمفردي في الطابق الأعلى، لم نلتق مند أكثر من شهر، أعرف انه موجود، أرهف دائما السمع لأتحسس خطواته وحركاته، يعمل  باستمرار على تجنب مواجهتي ولو بباب البيت أو الدرج ، مانكدبش عليك عييت حرمت راسي حتى من السفر أو المبيت لأي سبب خارج البيت، أخاف أن يستغل غيابي للقيام بمعرفتش أشنو،

- اسمحي لي هاد الشي خصوا ايدار ليه حد، بأية طريقة خصك تكلميه بهدوء على الحل المناسب لإعادة الوفاق أو إذا  دعت  الضرورة ......

- الفِرَاقَ، في الحقيقة هاد الشي فاش كانفكر ، غادي نتصل بعائلتي وعائلتو ، واحكي لهيهم التفاصيل ويكون خير ....

مرت أيام لا أستطيع عدها، بل كدت أنسى الموضوع لعدم ارتباطي به شخصيا ،كما أن اتصالي ببطلي المشهد قد ندر و انحسر خاصة مع الاستعمال المكثف للشبابيك الأتوماتيكية 

في عشية وأنا عائد لبيتي بعد صلاة العشاء في مسجد يبعد عن سكناي، التقيت بالسي راء، يجلس في سيارته في موقف شبه مظلم، كان هو من بادرني بالسلام .....

- عليكم السلام ورحمة، آش هاذ الوقفة هنا

- انتظر خروج المدام من الحمام

- مدام شكون مدام ...

- السي مصطفى آش هادشي، شحال من مدام عارف عندي

- أه مدام س علاه ....  (أميمتي هنا كدت أفرشها، فأصل السؤال كان علاه تصالحتوا)

- علاه آش

- بغيت نقول مزيان تستنى المدام من الحمام ......(ابتسم ولعل قراءات عدة تراءت له من ردي(

- الفقيه آش هاذ الكلام مافهمتش آش بغيتي تقول ........قاطعته مودعا وسألته أن يبلغ سلامي للسيدة س.......أما هو فبقي متتبعا خطواتي بعينيه وأنا متيقن أن في ذهنه ألف سؤال .......

أما أنا فقد شكرت الله الذي جمع شملهما، وألف بين قلبيهما، وأبعد رجس الشيطان عنهما

وإلى لقاء في المشهد الثامن

 



و بسرعة البرق تمضي الحياة

نص جميل خطر ببالي أدهلني ، تركت كل ما بيدي لأعيد صياغته وكأني  باليوم بدء  للتو ..... الساعة السادسة مساءً بسرعة بالكاد وصل يوم الاثنين ن...