لعنة الجوع
الأحداث
وإن كان مصدرها الخيال فهي مستقاة في جزء
منها من واقع معاش ، من الناحية التأريخية يمكن أن نزعم أنها قد وقعت (
الأحداث) بين عامي 1900 و 1945م .
بين
آثار عهد السيبة حيث المجال مفتوح للأقوى ، والسطو مباح على القبائل الأضعف ،مما قد يضطر الطرف الضعيف إلى استقدام من يحميه مقابل جزء من الأرض و
المحاصيل غير أن الحماة ما يلبثون أن يطبقوا
مبدأ حاميها حراميها . ووطأة زمن عمل
الكورفي أو السخرة التي كانت تقتضي العمل
بدون مقابل تحت التهديد بالعقاب بغية تمديد و تعبيد الطرق الممهدة لبسط نفوذ رجال المخزن وأخيرا ضغط الجوع
الناتج عن توالي سنون الجفاف و الأوبئة مما يجبر الناس إلى الإقتتات بالحشيش و
الربيع و النبات و النخل ،
*************
بين عجوزين
يعيشان مابقي من عمرهما تحت ضغط المآسي الثلاث ، مأساة التشرد الناجم عن بقايا عهد
السيبة و ضغط مأساة الجوع الناجم عن القحط و الوباء اللذان يعمان المنطقة وكذلك
مأساة الشوق للأبناء الذين غادروا دون وداع إلى وجهات مجهولة للإفلات من عيش الضنك
والجوع و العمل في الكورفي .....
هرعت
من نومها مفزوعة بسبب الصوت المنبعث من
الغرفة المجاورة ،وكاد قلبها يسبق أقدامها فهي لازال يسكنها ألم ورعب تلك الليلة
المشؤومة ، التي اقتحمت فيها عصابات آيت ايسفال قبيلتهم بني مبارك ، أصغت بسمعها
أكثر ثم نهضت من فراشها متثاقلة خشية إزعاج حفيدها ، على خطوات تحسست موقع فراشه
فوجدته خاليا ولايزال يحتفظ بدفئه ، سارت تلتمس طريقها نحو الغرفة المجاورة وعلى
نور المشعل الخافت التي يحملها في يسراه ، لمحته يعيد السلة إلى معقلها في السقف ،
شعر بوجودها فحاول التخفيف من حرجه ، وهو يخفي ثمرات وراء ظهره قائلا :
-
سمعت حركة غير عادية وجيت نشوف ، خفت
يكون الفار رجع
تظاهرت بالغباوة وردت عليه :
- حتى
أنا سمعت شي
وهي تحقق النظر فيه رغم ضعف بصرها ، وتستغرب لكذبه وتجرأه على السرقة من حصتها وحصة
حفيدها بعد أن التهم نصيبه ، أدركت أنها لم تره بدون قميص مند مدة طويلة ولعلها
مند ليلة النحس ، ولاحظت كذلك أنه أصبح يبدو كهلا مع أنه يظهر أثناء النهار أصغر
سنا . هو أيضا يراها لأول مرة امرأة عجوز بالفعل ، فهو لم يلقاها عارية الرأس مند
زمن بعيد . استدار كل منهما يتحسس طريقه نحو موضع فراشه متفاديا إحداث صوت يزعج
الحفيد ... وهي تقول:
-
ارجع لموضعك راه الصوت في الخارج
-
يمكن الريح كاينة هاذ الليلة
اندس في فراشه وصمت صمت الجياع ،
وتظاهرت هي بالنوم متعمدة اصدار تنفس عميق وبانتظام ، اعتقد معها انها مضت في
نومها العميق ،لكن مضغه للثمر كان رتيبا لدرجة أنها نامت حقا على نغماته.
*****************
فتح عينيه في الظلام و بين النوم
و اليقظة تنهد تنهيدة حسرة وألم عن الماضي
التليد ، يوم كانت لهم أرض وواحة ونخيل ومواش وبيت واسع ، تذكر أبوه ابراهيم وأمه
فاطمة ، وأبنائه الحسين و بوجمعة وعلي وابنته فاطنة والتفت جهة زوجته حلوم وتذكر
عرسه بها الذي دام عشرة أيام .
عاد فأغمض عينيه محاولا النوم لكن
النوم استعصى عليه كعادته كلما تذكر ظلم ايت ايسفال عليهم .....في عمق الظلام يتراءى
له يوم السوق الذي اعتمد ذريعة للعدوان عليهم و السطو على أملاكهم وتجريدهم من
تاريخهم وعلاقة أرضهم بهم . في خضم السوق ورواجه وكثرة رواده من أهله و بني عمومته مع التواجد الكثيف لطغاة ايت اسفال
، أعجب البربري بوتميرت وتعني دي اللحية
الصغيرة بعنزة أحد الكسابين ، فأراد أخدها عنوة أو بالثمن الذي يريد وأمام رفض
وامتناع البائع المقوى عضده ببني قبيلته ، عطست العنزة ،فاحتج بوتميرت على تصرفها
واعتبره مساسا بهيبته فقال بصوت عال :
-
عجبك الحال الحرثاني ، معزتك تعطس
علي..
فوجئ الحضور بهذا التصرف المجنون العرن،
واستغرقوا في ضحك طويل ، اعتبره هو إهانة إضافية له ولبني فصيلته من قطاع الطرق
....التفت إلى الجمع التفاتة تهديد وقبض في مجموع لحيته قائلا :
-
ها لحيتي الماعز ، كلكم معروفين ، و
العنزة من اليوم هي وكل العنزات ، ثمنهم عندي....
تقلب إلى جانبه الأيسر باحثا عن نومة تفصل مابقي من
ليله الطويل إلى انبعاث الفجر القريب ،سالت
دمعة على خديه تعصر وقع الألم الذي سكن روحه ودمه ثم دخل في مرحلة النوم العميق ليجد نفسه في
أحضان حلم يتذكر من خلاله صور الماضي الأليم
حيث :
أطل من بوابة الدشر ليجد أباه متكأ في مكانه
المعتاد ، اقترب منه وشرع الأخير يحكي له قصة قدوم أيت اسفال ، هم بربر من جبال
بعيدة كانوا يمتهنون قطع الطرق و الزطاط والسيبة بكل أنواعها ويتميزون بالقوة
والشراسة وشدة البأس والفساد ، وقد أجمعت القبائل هنا على التعاقد معهم من أجل
حمايتهم و الدود عنهم من اعتداءات باقي عصابات السيبة وذلك مقابل منحهم جزء من
الأرض و المنتوج ، لكنه مع توالي الزمن والآباء بالأبناء اعتبروا أنفسهم دوي حقوق
في الأرجاء ، ولهم قدم السبق في كل شيء بل هم في درجة أعلى من الساكنة الأصلية و
بالتالي يطبق فيهم قانون الغاب قانون الأقوى و يتوجب على الطرف الضعيف احترامهم
ومدهم بكل اواصر الطاعة والخنوع .
*********
تقول الأخبار المتداولة أن بوتميرت دعى قومه ذلك المساء
إلى إجتماع طارئ ، عرض عليهم بروايته وصيغته ماتعرض له من عدوان وسخرية وإهانة من
مجموعة من قبيلة بني مبارك ، يوم السوق حين رفض أحدهم وبتعنت بيعه إحدى نعازه
بدعوى أنه يرفض التعامل مع السياب بل أكثر من ذلك أن دفع عنزه إلى العطس عليه
وتبليل ملابسه ، ومما زاد في الطين بله ، أن دويه وأهل دواره من المحيطين به
استغرقوا في ضحك وتنكيل إهانات ، ويضيف أنه كان بوده أن يبيدهم جميعا لكن تعقله
ورزانته منعاه من ذلك حيث فضل عرض الأمل على هذا المجلس الموقر ......
تناوب القوم على
أخد الكلمة بعد أن أجمعوا على التنويه بحكمة بوتميرت وعرضه الأمر عليهم ، فسار منهم
من يخلق حكاية وقعت له مع أهل هذه القبيلة ، ومنهم من يدعي له دين على أحدهم يرفض تسديده ومنهم من رأى أن السكوت والصبر أكثر عليهم سيؤلب باقي القبائل عليهم و ويبخس قيمتهم وقد
يؤدي إلى إذلالهم ورفع شأن خصومهم ، ثم بدأت الاقتراحات فمنهم من اقترح حرق الدوار
بكامله ، ومنهم من قال بإعدام البائع شنقا أمام أهله ، ومنهم من دعا إلى منعهم من
حضور السوق ومقاطعتهم ومنع التعامل معهم ، إلى أن تدخل كبيرهم فأمر بالهجوم على بني
مبارك واغتصاب أرضها وطردهم منها والاستحواذ على جميع الممتلكات، وبعده مباشرة
تدخل الداهية سلام الذي هو في نفس الوقت
بربري يسكن داخل قبيلة بني مبارك وتربطه بهم مصاهرة ، حيث أشار إلى أنه بحكم
علاقته بالدوار يمكنه فتح باب الدشر وتيسير الدخول بسهولة لمباغتة أهله والاستحواذ
عليه دون أدنى مقاومة وأنه لايريد شيئا مقابل ذلك سوى تمكينه من ربوع عبد الله
بالحبيب ، تمت الصفقة بموافقة الجميع على أن يتم إطلاع الحلفاء بمقتضاها والإخبار
عن تاريخها لاحقا ........
*********
بعد صلاة عشاء اليوم الموالي قام سلام من بين الصفوف
ليصيح في القوم
-
السلام عليكم
القبيلة سمعوني مزيان ، باش تعلمو وتحقو راني سمعت باللي ايت اسفال حلفو حتى اكسرو
بني مبارك ، اللهم راني بلغت ويبلغ الحاضر الغايب .
والكسر يعني
في مصطلح السيبة الهدم وكسر شوكة القوم بمعنى إذلالهم وردم بيوتهم
كان للخبر وقع الصدمة بين الناس بين مصدق ومشكك ، وسارت
الوشوشة بينهم جماعات جماعات ثم صبت نحو جمع عام كثر فيه اللغط و السخط ثم شرع في
تكوين لجن لمواجهة الحدث و البربري سلام تتقاذفه الأمواج بين سائل ومستفسر وباحث
عن الأسباب وأخيرا خلصت اللجن إلى قرارات متناقضة منها من دعت إلى النفير العام
ومنها من دعت إلى المفاوضة ومنها من أمر كل اسرة بتقديم شاب للدفاع عن القبيلة كل
هذا والداهية سلام يتابع المواقف ويرجح
هده الكفة و يبخس تلك حسب هواه و مبتغاه ، مضت هذه الليلة دون الخروج بأية نتيجة ،
لتعاود الاتصالات بعد الفجر وكادت كثرة التدخلات و الآراء أن تسفر على انفجار بين
القوم أو خصومات ، حيث خلصوا في الأخير الى أن كل واحد يدافع عن ربوعه.....
مضت
أيام وأسابيع وشهور ثم بدأت همة الدفاع عن الثغر تفتر وانشغل كل بهواه ، وعادت
الحياة إلى سابق عهدها داخل القصر و القصر هنا ينطق بتخفيف القاف المسكونة وفتح
الصاد .
تعيش
عائلة ابراهيم اوبامو في مسكن هادئ ومتسع يقتسم العيش فيه الجد وزوجته فاطمة
وبجواره سكن ابنه أحمد مع زوجته حلوم وحفيدته فاطنة و آخر العنقود بوجمعة ذي
السنتين إلى ثلاث ،اما الأبن الأكبر فهو علي الذي هاجر مند مدة طويلة وانقطعت
أخباره وقد أشيع أنه يعيش في منطقة الغرب والغرب يقصد به من مناطق القنيطرة إلى
جهة فاس.
بقي سلام
يتربص بين الساكنة ويسجل سكناتها ويحصي حركاتها ويهتم أكثر بشخص عبد الله بالحبيب
يترصد أخباره وعدد ممتلكاته بل يتسلل أحيانا إلى مرعاه ليتفقد حال ماشيته فإن كان
الناس قد تغافلوا عن الأمر فهو دوما ينتظر اللحظة الصفر لينقض على الشخص وكل
مالديه على أنه نصيبه في الوزيعة .
في
ليلة مقمرة من ليالي الخريف ، عاد سلام إلى القصر مـتأخرا كعادته ،دق الباب قائلا
-
ابراهيم ..افتح الباب
أطل
إبراهيم من نافدة البرج فلاحظ خيولا وبغالا و أدوات تتلألأ في الظلام فهم أنه
لمعان البنادق وأن هجوم البربر وشيك
-
الغدر هذا أ سلام شكون معاك أيت اسفال
لم
يتمكن المسكين من سماع الجواب ولا أن يهب للإخبار بالخطر الداهم فقد انسل سلام من
ثغرة في السور كان قد أعدها لذات الغرض ثم بادر البواب بسكين أرداه قتيلا بعدها
فتح الباب ، وما إن فتح الباب حتى باغته
زعيم العصابة برصاصة في رأسه قائلا
-
هاك الغدار ها ربع بالحبيب
اقتحمت
العصابة ابواب القصر وداست بخيولها جثة الخبيث سلام وشرعت تطلق النار في الهواء وفي كل الجوانب ، وانتشر
الخوف و الهلع بين السكان وساروا يتيهون في كل مكان بل منهم من خرج عاريا حافيا
، كل يمشي في اتجاه و الخوف في كل مكان ، وأيت اسفال ينتشرون في جميع أرجاء الدوار ، أما
زعيمهم فقد قصد دار عبد الله بالحبيب .
فتح
الزعيم الباب ، فظهر عبد الله بالحبيب خائفا مرتعشا وراء الباء وبندقيته لاتكاد
تلتسق بيده ، أخد البربري البندقية و تفحصها ببطئ واستدار يقول لمرافقيه
-
انظروا هذا البليد يملك بندقية سباعية
، ولم يقدر على الدفاع عن قبيلته .
والتفت إليه ، وهو يدفعه برأس البندقيته
، قائلا و بتهكم :
-
الجبان لو أطلقت في الهواء جوج قرطاسات متابعين من هذه كون هربنا .
فأمره
أن يكشف عن جميع مدخراته من مال وذهب و فضة ، ثم باقي المنقولات المخزونة منها و المرئية وبعد أن
جرده من كل مايملك ، أشار إلى أصحابه أنه
يمنحه الأمان هو وحريمه وبناته كي يغادروا القبيلة .
ولم يصبح الصباح إلا و الطغاة قد أوغلوا في
النهب و السرقة واقتسام حصاد الغنيمة.
هرع المنهزمون
إلى دار الزاوية و انتشروا بين أرجائها طيلة اليوم تحت حرارة شمس الخريف الحارقة يرجون تدخل الشيخ
لإنصافهم ورفع الجور و الظلم الذي وقع عليهم ، وبعد الغروب حضر زعيم أيت إسفال
للتفاوض مع الشيخ ، وبقي الناس متلهفون ينتظرون لساعات وهم بين الأمل والرجاء في
استعادة أموالهم و الرجوع إلى بلدهم .
إلى
أن خرج ممثل الشيخ ليخبر الجميع أنه بعد مفاوضات عسيرة مع أيت إسفال ، فقد اتفقوا
أخيرا أن يشتري الشيخ أرض القبيلة بماقدره مائتي ريال حسنية ، وانها مند الأن
أصبحت في ملك الشيخ الذي دفع الثمن وأمضى العقد ، لذلك فهناك ثلاث حلول للمشكلة ،
الأول يقتضي تحصيل المبلغ المدفوع وتسترجع
القبيلة في المقابل الأرض و البناء دون المنقولات التي وزعت بين الغزاة ،أما
الثاني إدا عجزت القبيلة تتم المبايعة مع كل فرد يدفع قيمة نصيبه أن يعود إلى أرضه
، والحل الأخير أن الشيخ سيتصدق على كل عائلة بربع ماكانت تملك..
زاد
ذهول الناس لما سمعوه من الناطق باسم الشيخ ، فهو يعلم مسبقا أنهم لم يعودوا
يملكون مايسد رمقهم ، فمن أين لهم بدفع قرش واحد لاسترجاع أملاكهم المنهوبة ، تفرق
القوم بين من رضي بالربع مثل آل بالحبيب وبين من لايمثل الربع له شيئا فقرر إما
الاستقرار قرب وفي جنبات الزاوية وبين من هاجر إلى وجهات غير معلومة وبين من لجأ
إلى إحدى القبائل التي كانت تجمعهم أواصل الحلف أو النسب و المصاهرة .....
**********
مرت سنين عديدة على
ليلة واقعة كسر بني مبارك ، وقد اندحرت شوكة أيت اسفال بل بأس السيبة على
العموم و استطاع رجال السلطان مد نفود المخزن والسيطرة على الطرق وسلامة التجارة ،بعد
أن ثم تجهيزهم بأحدث الأسلحة و المدافع ،كما أن اعتماد رجال المخزن على انتهاج
أعمال السخرة قد ساعد في بناء وتعبيد وتزفيت الطريق الرئيسية الشيء الذي ساهم في استتباب الأمن وفي وصول المركبات
والحافلات مما إلى أدى إلى أفول التجارة عبر القوافل أو السفر على المواشي اللذان كانا المنعش
الرئيسي لقطاع الطرق ، أما ايت اسفال فقد
توزعوا بين من التحق بالجيش الفرنسي و من
رابط على النقيض مع مقاومي
الاستعمار ومن عمل إلى جانب باشا المخزن وبين من فضل الاستقرار و المهادنة ضمن مكونات قبائل المنطقة
.
أحمد أوابراهيم استوطن مند خروجه من أرضه بقبيلة
البراهمة حيث وجد ترحابا وسكنا وعملا يؤمن له لقمة العيش رفقة زوجته حلوم وابنه
بوجمعة أما البنت فاطنة فقد انقطعت
أخبارها مند تلك الليلة ، إلى أن شاعت أخبار قبل أيام عن رؤيتها بالزاوية ، فمن قائل أنها في تلك الليلة سبيت وبيعت إلى أحد أشراف الزاوية ومن قال أنها
أهديت له ،المؤكد أنها تعيش حثما داخل الزاوية.
الحسين الابن
الأوسط فضل الهجرة مع أسرته إلى الدار البيضاء ، أما بوجمعة
فبعد أن اشتد عوده أصبح عضد والده في العمل وتأمين لقمة العيش ، مما شجع
أباه على تزويجه من فاطمة المنتمية للبراهمة لعله يستقر معه ولايفكر كباقي إخوته
في الهجرة .
كانت الأمور تسير هادئة مطمئنة إلى أن جاء ذلك اليوم
الذي أخبر فيه مندوب الباشا اسرة أحمد اوابراهيم عن دعوة بوجمعة للعمل في الكورفي
أي السخرة في إطار الأشغال الجارية لبناء
وتعبيد الطريق الرئيسية.
ثارت ثورة بوجمعة ورفض بشكل قاطع العمل في الكورفي
قائلا
-
أنا أجنبي هنا براني ماعندي لاأرض ولا
عرض ، علاش نخدم في الكورفي
-
اوليدي الله يهديك واش حنا قد المخزن
واش كاتعرف العقوبة ديال الهروب من الكورفي
-
غادي نخوي البلاد
-
مزيان هدا خبر زين أنا كبرت وعجزت
وأمك راك تشوف ومرتك حامل
طالت
المناقشة بين الأب والابن الأول يحاول إقناعه على العدول عن فكرة الهروب والثاني
يصر على الهجرة بأي ثمن ، في حين تتابع الأم و الزوجة الموقف دون حراك .
وفي
الصباح اكتشفت الأسرة أن بوجمعة قد اختفى دون أن يودع وكانت تلك خرجته الأخيرة دون
رجعة....
مرت
سنتين ولم يظهر له أثر ولاخبر وقد رزق بعد سفره بأشهر بولد ذكر أسموه محمد ، لم
تتحمل الزوجة الظلم الواقع بها من هذه التزويجة التي تسميها هي بالزواج المنحوس
للعروسة المنحوسة ، من جراء ذلك كانت تدخل كثيرا في مشاداة كلامية مع كنتها تترك
إثرها الولد لجدته و تنصرف إلى دار أهلها حيث تقيم أياما وليال لتعود وتعود
المشاداة مجددا
في أحد أيام السوق الأسبوعي جاء رجل من بني
عمومته مهاجر هو أيضا إلى نواحي القنيطرة ليخرج أحمذ اوبراهيم من شروده قائلا
-
السلام عليكم
كيف حالك يا أحمد اوبراهيم
-
وعليكم
السلام يا ابن العم فين غبرتك
-
في سيدي
سليمان بمنطقة الغرب
-
وبوجمعة ولدك
يبلغك السلام
-
بوجمعة ولدي
حي يرزق
-
موجود مع
أخيه نواحي مكناس
-
وكيف حالهم
-
لاباس عليهم
-
بوجمعة ارسل
ليك هاذ الريال الحسني وهاذ الرسالة
-
واش فيها
-
قال ليك سمع
باللي فاطمة مراتو مخاصما معاكم ، وذبا الى بغات تبقى مرحبا وإلى بغات تمشي هاذي
وكالة باش تطلقها....
أما السوق الموالي فقد كان له وقع متميز على رتابة حياة
أحمد وزوجه حلوم ، فبينما يجلس وزوجته تحت
ظل شجرة يستريحان ومعهما الحفيد محمد فإذا
بصوت يردد وهو يمشي بين الناس :
-
أحمد اوبراهيم ...هل من أحمد اوبراهيم
..ياأحمداوبراهيم
قام الرجل مفزوعا
- أنا أحمد اوبراهيم
..من يريد أحمد او براهيم
التفت المنادي ثم جاء
صوب أحمد
-
السلام عليكم
أنت أحمد وهذه زوجتك حلوم
ربت على كتف المرأة وقال
-
انتظر أنت
هنا مع ولدك...اتبعيني
بقي أحمد في مكانه مشدوها لا يدري ما الامر ، وسارت
زوجته خلف الغريب يتجاوزان الماشين و
يتخطيان رقاب الجالسين ويوم السوق عادة يكون الرواج مكثفا و الأكتاف متشابكة ،بحيث
حجبت الرؤيا عن أحمد وغاب عنه شبح خيال امرأته ..سارا إلى أن وصلا باب خلفي لمقر
الزاوية ، حيث تجلس امرأة منقبة تلوي عليها حائك أسود لايظهر منها سوى شعاع عين
واحد ،تبادل الشخصان إشارات بينهما ،ثم غاب الرجل وأشارت إليها المرأة أن تتبعها
دخلتا بين دروب وأزقة المباني الداخلية للزاوية والتي لايحق للغريب ولوجها إلى أن
وصلتا قرب شرفة بيت عال ، فأشارت إليها بالجلوس إلى ظل شرفة مقابلة ، جلست حلوم
للحظات تترقب الذي يأتي أولا يأتي وبعد مدة فتح الباب وخرجت منه أخرى تشبه الأولى
في زيهاغير أنها أملأ جسدا وأطول قامة فلوحت لها أن تقترب ثم بادرتها
بالقول
-
أمي حلوم الله
على اميمتي ....
لم تصدق
العجوز عينيها ، أعادت التحقيق في محيا مخاطبتها ،من تكون ياترى ، امرأة من ديور
الشرفة تظهر عليها بغثة و تحتضنها ، فيم هي تبق شاردة لاتدر ماذا أصابها تعيد بسط
النظر والتدقيق في الملامح أدركت أن المرأة التي تعانقها هي تلك الشابة فاطنة
ابنتها التي فقدتها ليلة الهجوم على قبيلتها حاولت الجلوس بل كادت أن تسقط مغمى
عليها لولا تمالكها لنفسها
-
بنتي فاطنة
الحمد لله ، الله الله الله دبا الى بغات تجي الموت غير تجي ، هذا الهم هم اللي
كان شاغلني وتمنيت مانموت حتى نشوفك ابنتي .
جلست المرأتان على عتبة الباب وشرعت تحكي لها ماحدث لها
تلك الليلة ، حيث افاقت من نومها على صوت الرصاص و الضوضاء والخوف والهلع
المنتشرين في الأرجاء ، ارتمت عليها جدتها فاطمة فجرتها ومضيا يجريان على مجرى
السيل الجارف من البشر ، ثم أخدا بيدي بعضهما وتابعا المشي على غير هدى وفجأة وسط
الاضطراب و اختلاط الأيدي فقدت جدتها ولم تستطع العثور عليها بعض مضي ساعات من
البحث لتجد نفسها أصبحت في مؤخرة الركب فلحقت بالجمع مخافة أن يدركها اللصوص وصلت
مع الحشر إلى مشارف الزاوية وبينما تواصل البحث و النداء دون توقف عن جدتها وإذا بيد تحنو عليها وتهمس في أذنيها ...أن
تعالي نمضي عند جدتك ...لتجد نفسها في النهاية في مودعة ضمن حريم مولاي التهامي ولها
منه الآن طفلين يتابعان دراستهما بجامع الزاوية، بدورها حكت لابنتها ماجرى للأسرة
مند ذلك التاريخ وعن زواج بوجمعة وعن هروبه مند سنين إلى الغرب وعن معاناتها مع
زوجته وعن الحفيد محمد ولد بوجمعة الذي
ازداد بعد أشهر من سفر والده، ثم عن فاطمة التي تم تطليقها وتركت لهما الحفيد
وانصرفت لدار اهلها وكيف يسر لها الله في زواج رحلت بعده الى الدار البيضاء ، عادت
المرأة المنقبة الأولى للظهور من فوهة الباب لتضع قفة متوسطة الحجم وتنصرف ،عندها
تقف فاطنة مودعة وتسلم أمها القفة قائلة :
-
هاذ القفة
فيها بعض الخبز والثمر والفصة ، نشوفك السوق الجاي ، غير اجلسي هنا ، غادي نشوفك
من الشرفة ...
عادت حلوم إلى حيث يستقر زوجها و حفيدها ليهب إليها
الصغير فرحا ،منبسطا ومتهللا لرؤية جدته الذي ظل يسأل عنها ويكرر السؤال دون أن
يحظ برد من جده ، تجلس الجدة و يقعد الصغير بين ركبتيها
متطلعا إلى ما بداخل الوعاء الذي كانت تتأبطه جدته ، فتحت حلوم القفة بحذر
خشية أن يكتشف أمرها بعض اللصوص أو الجياع الفضوليين ، تظهر على السطح كسر خبز
مختلفة الحجم و الطعم ، بين الطري الهش و اليابس الخشن وبين الجاف والدسم أو تعلق
فيه أمارة دسم وبين من فيه لحم أوبقية لحم ، بالطابق الموالي تبدو كمية ثمر وهريسة ثمر و بندق وفي العمق بعض
الدقيق والفصة ، منحت حفيدها كسرة خبز
طرية وضمنها شريحة لحم شهية مما أثار حفيظة العجوز الذي وجد في هذا حيف خارق لحق
الأفضلية لأب الأسرة حسب العرف و العادة فجدب القفة بعنف إلى جانبه واحتفظ لنفسه
بكسرتين وأمدها بواحدة ثم وضع القفة على كتفه على أن يتم اقتسامها على نصفين ، عند
الوصول إلى البيت ، يحتفظ لنفسه بالنصف ولها
وحفيدها الباقي ، كل طرف يحوز نصيبه الذي
قد يغنيه عناء البحث عن الطعام ليومين أو ثلاث
**********
عم القحط و الجفاف و انتشرت الأمراض و الاوبئة وهاجم
الجوع و العطش معظم النازحين الذين لا أراض
لهم ولا أشجار وبالتالي لا سبيل لهم لامتلاك خزائن زرع أو ثمر بل من أصحاب الأرض من نفد مخزونهم وجف ضرعهم مما أجبرالجميع
إلى ابتكار أطعمة من الحشيش والربيع والنبات و النخل وعلف الثمر وأحيانا أكل الفصة
إن وجدت دون استبعاد خيار اللجوء إلى التسول أو الاصطفاف في طابور طويل للظفر بما تجود
به الزاوية من طعام لسد الرمق ، لذلك سارت تشد الرحال إليها أيام الأثنين و
الأربعاء و الجمعة أما السبت فهو يوم السوق الأسبوعي ابواب الزاوية مغلقة لكن في زحمة السوق تجد من يجود بالطعام على
المساكين، في حين دأبت حلوم على التسلل كل سبت
إلى داخل الحريم لرؤية ابنتها وأخد
قفة طعام.
*******
انتبه العجوز من شخيره الفظ وحلمه الذي عاش فيه ذكريات
الألم، ولازال طعم الثمرات التي اختلسها من قفة حلوم المعلقة قبل حين يلوك في فمه ، على صوت زوجته حلوم ، فأوان أخد الطريق إلى الزاوية
قد حان ، رغم أن الرؤيا لاتزال محجوبة لعدم انقشاع الضباب عن الصبح ، سار هو في الأمام وهي من وراءه وعلى ظهرها
حفيدها ، وعلى طول الطريق يمنة ويسرة تجد أرواحا منسية تموت جوعا خرجت مبكرا
باتجاه الزاوية لكن شبح الهلاك طاردها في الطريق و تلقى كذلك شبه أجساد جفت حلوقها
ظمأ وعطشا وأخرى تصارع الموت بل تكاد أن تبلى و بين الفينة و الأخرى تجذ رضيعا جف
الضرع ولم يجد ما يسكت بكائه ، ثم طفل يريد خبزا وأمه تمنيه بقرب الوصول .
في الغالب يتكون الطعام الموزع على حريرة مع بعض
الخبز أو صحن أرز أو حفنات من الثمر ، والحقيقة أن هده الأطعمة لاتكفي دائما لسد
حاجات المصطفين وكثيرا ماكانت تحدث مشادات بين الجياع تؤدي إلى ارتباك عملية التوزيع .
أخد صحن أرزه و نأى به جانبا في حين أخدت نصيبها
وجلست مع حفيدها ومن حسن حظها اليوم أن عامل المطبخ من معارفها أوفى لها في العطاء بدعوى إضافة نصيب الصغير تركت الصحن
للحفيد الذي أوغل فيه بل تجاوز نصفه و
يسرع لالتهامه بالكامل لولا صياح العجوز عليه ونهره :
-
وباركا عليك .. خلي جداك تاكل ...وكلي حقك واش غدا
تمشي برجليه...والخير اللي لقيتي في الكبار غادة تلقايه في هذا ....
تقاطعه قائلة
-
ياك اخدتي حقك خلي ولدي ياكل حتى يشبع إلى شبع هو
أنا شبعانة
يغضب الصغير ويتراجع إلى الوراء ومع ذلك تقرب له
جدته الصحن ليستزيد فيرفض ويصر على رفضه والدموع تسير جارية على وجنتيه ، تأكل
حلوم مابقي في الصحن ، وتحضن صغيرها وتعده أنها ستوفيه نصيبه في المساء بحساء ساخن
أو كسر خبز و تمرات.
************
في يوم ثلاثاء حيث تستقر الأسرة في
البيت معتمدة في قوتها على الطعام الموفر أوماتجود به الأرض في عين المكان ، وجهت
حلوم حفيدها محمد الى دار جدته من أمه تدعى لا لاحمي تقيم
بربع أل عيوش لعلها تمنحه ثمرا ... وصل الصغير ربع أل عيوش واقترب من منزل جدته من أمه وبدأ يصيح
-
لا لا حمي
اطلت العجوز من النافدة غضبة مقطبة
الحاجبين..
-
أش كتقول الزقوف لا لا حمي وليت
قدك ماتحشمش سير ولا غادي نجي نربيك لا لا
حمي حرفية وليت قدك أ أ قدوس
اختفت الجدة وأغلقت
النافدة في حين بقي الصبي خائفا وجلا لا يدري ماسبب حنق وغضب جدته ،تراجع باكيا
يروم العودة من حيث جاء ، وفجأة ظهر حوسى ومد له يده اليمنى ليقبلها الصغير تحية لخاله ثم
قال له وبلطف :
-
تعالى يا وليدي هاديك راه جداك قول ماما حمي ماشي لا لا حمي أش خصك تقول
-
ما ما حمي
-
الله يرضي عليك ماتعاودش ماما حمي
-
أش بغيتي أمحمد
-
شوي الثمر رسلتني أمي حلوم
فتح الخال باب مخزن وولج إلى الداخل
،تبعه الصغير وهو يتحسس طريقه لعدم وضوح الرؤيا ليتبين له فيمابعد وجود أنواع تمر مختلفة على
الأرض أو مخبئ في خابيات ثم أجلسه عند
أقرب كومة قائلا :
-
كول حتى تشبع وخود هاد القفيفة عمرها واديها معاك .....
أخد الطفل يختار من التمرات أجودها يأكل
البعض ويضع الأخر في القفة ليقتسمه في المساء مع ام حلوم ، وبعد أن شبع وامتلأت القفيفة
، خرج مسرعا اتجاه منزلهم ليبشر أمه حلوم بحصيلة ما جمعه من بيت أل عيوش ،وصل
البيت ثم دخل ليجد غرباء في دارهم يحيطون
بجده أحمد أو براهيم ، سارع إلى حيث ترك
جدته في الفراش الذي يقتسمه معها ، وجد الفراش خاليا ، فسعى إلى جده يسأل عن أمه
حلوم ، أشار الجد بيده إلى الغرفة الصغيرة فعرج الصغير عليها ليجد نسوة محلقين حول
فراش ممدد ومغطى وقيل له هذه جدتك ، حاول الكشف عن وجهها المغطى ، منعته النسوة رغم
إصراره وتمرغه في الأرض بل وتشبته العنيد للكشف عن وجه أمه حلوم حيت استطاع مرارا
الانفلات من قبضة النسوة للارتماء في حضن جدته انتهى الموقف بتدخل أحد الرجال الذي
حمل الصبي على كتفه وخرج به إلى إحدى الساحات القريبة ليهدئ روعه ويلتحق ببضع
أطفال يلهو معهم ..
عاد بعد العصر ليجد جده منفرد بالبيت ،
بقربه صحن به بقية كسكس لعله نصيبه من طعام مقدم للمواساة في موت الفقيدة ، قفز من
مكانه مندهشا لايصدق عينيه وبين فرح ودهشة غاب الحزن فاندفع نحو القصعة ودون انتظار إذن جده مد يده للطعام وأوغل في
الأكل حتى استنفد محتوى الصحن وبعد ذلك فقط التفت يمنة و يسرة يبحث عن أمه حلوم
فهو لم يستسغ ولم يع بعد معنى أنها ماتت ، وبعد أن فقد الأمل في جواب يدرك معناه
من جده ، انتقل إلى فراشه وهو يردد : أين أمي حلوم أريد أمي حلوم
بات ليلته تلك حزينا كئيبا لغياب شريكة
فراشه و جدته الحنون ، طغت صورتها ولعبها معه وهي تتقاذفه هزا إلى الأعلى والأسفل
أو يمينا وشمالا على كل أحلامه وكل ما أفاق من حلم سارع إلى تحسس مكانها الخالي
بقربه وفي الصباح رافق جده إلى سوق السبت .
بالطبع لم يعد بإمكان العجوز الحصول
على القفة الأسبوعية لاستحالة ولوجه إلى حريم الزاوية وعليه فقد اكتفى بالجلوس قرب
باب السوق حيث يتلقى أحيانا تعازي معارفيه ومنهم من يسأل عن الصبي :
-
شكون هذا يا أحمد
-
هذا ولد بوجمعة اللي سافر مند أكثر من ست سنوات إلى الغرب وتركه في بطن أمه
، وبقي مع المرحومة حلوم هي التي كانت تهتم بتربيته
-
وأين أمه
-
سافرت مند
فطامه إلى الدار البيضاء وتزوجت هناك ،
كانت هذه الأحاديت تتساقط على دهن
الصبي دون أن يفهم جليا معناها ، أمه حلوم ماتت وهو لا يدري متى ستعود ، أمه في
دار بيضاء ، وهو لا يعلم أما سوى حلوم ، ودار بيضاء وهو يرى كل الدور بلون موحد
يغيب عنه اللون الأبيض ، فأين توجد دار بلون أبيض ...
بل مازاد في حنق الصغير وشوقه لمعانقة حنان و حضن جدته كون جده لم يعبئ به
ولا بصراخه ولا بالجوع الذي يكاد يقطع أحشائه في حين انشغل هو بالخبز الذي وزعه
قبل فترة أحد المحسنين حيث حظي العجوز برغيفين أخفاهما داخل كيس ، التهم الأول و
الصغير يتابع الاصابع التي تخرج اللقمة من الكيس لتودعها داخل الفم وبين الفينة
والأخرى يتدخل الصغير ليقطع حبل المودة بين الكيس و الفم، ليسأل عن جدته لعل
العجوز ينتبه إلى وجوده ويرحمه بعضة خبز و ينهي الرغيف الأول ثم التاني دون أن يحظ
الحفيد بعطاء ويفقد الأمل ويعود لانتظار جدته . وأحيانا يعود ليفيق من سباته على كسرة خبز ، حفنة ثمر أو
قطعة نقود ،يجود عليه بها أحد المارة ثم
يعود لشروده لا يجد جوابا يغنيه السؤال عن جدته و دون أن يحظ برد من جده.
**************
على فراشه المعتاد يجلس الصبي في غرفة يكاد يعمها الظلام لولا ذلك المشعل
من جريدة نخل يحترق ليعطي ضوءا خافتا يستمر في النظر اتجاهه كي يطرد كل وساوس
الظلام فقد غابت عنه تلك التي كانت تحضنه وتلاعبه فلا يلقي بالا لاية مخاوف ، بينما يجلس العجوز في الطرف الأخر يحاول عد
النقود التي تحصل عليها طوال هذا اليوم ،وسط هذا السكون الرهيب يسمع صوت من وراء
الباب يقول :
-
ياأحمد اوبراهيم تقول لك فاطمة ارسل لها ولدها ليعيش معها في الدار
البيضاء.
دون أن يتحرك من مكانه ودون أن يكلف نفسه عناء إعطاء جواب للمنادي ، اكتفى
العجوز بالالتفات نحو الصغير قائلا :
-
انهض قوم سير مع خالك عند أمك ......
اتجه الصبي نحو الباب وهو لم يع بعد
معنى الذهاب عند أمه فقد ثم إقناعه أنها لن تعود ، ثم كثيرا ما يسمع عن أم له في
دار بيضاء ، لكنه لم يسبق له أن رأى هذه الأم ولا عن دارها البيضاء ،فتح الباب
ليجد حوسى ينتظره ، بعد أن قبل يده ، أخد الخال بيد ابن أخته باليمنى بينما اليسرى
تحمل جريدة نخل مشتعلة لإنارة الطريق نحو
ربع آل عيوش.
بمجرد أن فتح الخال باب المنزل خطرت
للصبي وساوس من ردود فعل جدته ، التي عاملته بقسوة لم يدر سببها عند أخر زيارة له
لهذا البيت ، تدارك الخال الموقف وكأنه قرأ هواجس ابن اخته ، فانحنى عليه بلطف
وقال :
-
اسمع أولدي مني ، ندخلو سير سلم على ماما حمي شكون
أجاب
الصغير
-
ماما حمي
ظهرت الجدة في عمق الغرفة وأمامها صحن طعام العشاء ، لازال مغطى في انتظار
أن يحيط به الجميع ، بمجرد الدخول اتجه الصغير بشجاعة اتجاه جدته :
-
ماما حمي مساء الخير
استبشرت العجوز لقدوم حفيدها وأجلسته
بقربها بالترحيب وسارت تربت على كتفيه
-
مرحبا بولدي ماما حمي الله يرضي عليك دبا نتا زوين
اطمأن الصغير وشعر بنوع من الحنان
افتقده مند غياب أمه حلوم ، كان طعام العشاء مكون من كسكس وخضر، وكان الصغير يتناول
الطعام بلهفة الجوعان وجدته تلح عليه أن يستزيد إلى أن شبع ولم يعد بإمكانه أن
يواصل الأكل .
كانت ليلة جميلة بالنسبة للصغير حيث أن
جميع أفراد الأسرة من جدته وخالته وخاله وزوجة خاله يرحب به و أولياه اهتماما لم
يسبق للفتى أن أحس به ، فهو يتحدث و الكل يصغي إليه ، وأنشد لهم أحسن ماحفظه من
أمه حلوم وحكى لهم قصصا متنوعة سمعها في السوق أو من جده وجدته حلوم ، بل زاد
المتعة أكثر حين قام يرقص لهم ويقلد مختلف رقصات أقلال من دق السيف وهز الكتفين واللعب بالأرجل ....
في الصباح الباكر ايقظه خاله بعد أن
نام نومة هنية ممتعة أنسته كدر العيش مع جده وألم الحزن على أمه حلوم ، منحته جدته
فطوره المتضمن لحساء وثمر . ثم أوصت ابنها حوسى أن يذهب به إلى السوق وأن يشتري له
ملابس جديدة قبل السفر.
في السوق اشترى له خاله قميصا طويلا
أبيض اللون وسروال قصير وقد أنساه السروال فرحته بالقميص ذلك لأنه لأول مرة يلبس
سروالا تحت القميص بل زادت فرحته أكتر حين لبس النعال فقدميه اعتادا المشي حافيين
كغالبية أقرانه بل من الكبار من لم يلبس بعد الحداء .
*********************
خرجا من السوق مسرعين في اتجاه حافلة
ركاب تقف بجانب الطريق والمنادي ينادي على الراغبين في السفر ،أن الحافلة ستنطلق
فعليهم الإسراع لأخد أماكنهم ،كان في انتظارهم بقرب الحافلة رجل بالزي العسكري بعد
التحية و السلام بادره حوسى بالقول
-
السي موحى هاذي هي الأمانة (مشيرا إلى الصبي محمد ) وصلو عند على بن
الجيلالي في المدينة القديمة وهو غادي يتكلف بيه ويوصلو عند مو .....
بدأت الحافلة تتحرك والناس تسرع للركوب
أو اللحاق بها ، انحنى الخال على ابن اخته ليعانقه عناق الوداع ، عناق أحس من
خلاله الصبي بالحنان الذي افتقده مند مدة طويلة ومن فرط الفرحة اقترح على خاله أن
يرقص له رقصة دق السيف ، ضحك الخال و حثه على الإسراع بالركوب ، صعد وراء الجندي
الذي أخد مقعدا إلى جانب النافدة في
الطرف الأخر فيم وجه الصبي للجلوس على أرض الحافلة في الممر عبر المقاعد.
مع انطلاق الحافلة علت أصوات
الركاب بالتكبير و التهليل وطلب السلامة و النجاة و الوصول في أمان الله وحفظه ، انزعج
الصبي في البداية من هذا الضجيج المفاجئ لكنه مافتئ أن انسجم مع الوضع وصار يردد
الدعوات و الصلوات وفق ميزان وترددات المجموعة ، ، لفت انتباه الصبي وجود كيس كبير مر عليه بيده ثم تحسسه ليتيقن أنه يحوي
ثمرا ففكر في السبيل للوصول إليه والوسيلة الأنجع هي لعبة الفأر فشرع يبحث بأصبعه
عن ثغرة في الكيس توصله للثمر ونجح أخيرا في شق ثغرة خرجت من خلالها أول ثمرة
جدبها بخفة فتبعتها الثانية والثالتة وتوالت التمرات في السقوط ، رفع الصبي رأسه
اتجاه صاحب الكيس الذي كان نائما فإذا به يراقبه من فوق اضطرب الصبي وارتعدت يداه
خوفا وهلعا لكن صاحب الكيس كان رجل كريما حيث ابتسم له وانحنى عليه ليهمس في أدنه
:
-
كول أوليدي حتى تشبع
كان هذا بمثابة مفتاح جعل الصبي يحس فعلا بالشبع ويتوقف عن جمع التمر ،
سارت الحافلة تنهب الأرض نهبا
وكثيرا مايعاود الركاب نفس الألحان خاصة
كلما بلغت المركبة منعرجا من منعرجات الجبل الخطيرة سواء لإبعاد الخوف أو تمضية
الوقت لتقصير المسافة ، ومع ذلك كثيرا مايعم الهدوء و السكون ويخلد غالبية الركاب
لنوم عميق
وصلت الحافلة قمة الجبل ، توقف السائق وأخبر الركاب ان لهم نصف ساعة
استراحة ، نزل الجميع وكان العسكري آخرهم حيث اقترب من الصغير و أوصاه أن يلزم
مكانه إلى حين عودته، اغتنم الطفل خلو الحافلة ليطل من وراء النوافد ماشيا ورائحا
يتفحص المكان ليرى موقع به حوانيت على طول الطريق وتصطف أمامها عدد من الكراسي وأن
ركاب الحافلة يتوزعون على هذه الكراسي ثم هناك أطباق طعام وشاي وخبز تقسم عليهم
مما أحيا الجوع في بطنه وهو يقترب من الباب ظهرت له دار بيضاء ثم ثانية و ثالثة
فتيقن أن هنا الدار البيضاء حيت توجد أمه وأن العسكري موحى دهب حتما للبحث عنها
رجع إلى مكانه بين الفرح و الابتهاج من جهة وبين صدمة المفاجئة المنتظرة من جهة
أخرى إلى أن قطع عليه حبل تفكيره خادم مقهى جاء بصينية بها براد شاي وخبزة من
الحجم الكبير ، وكانت هذه أول مرة يستحوذ فيها الصبي محمد ببراد شاي محلى بالسكر وومنكه
بالنعناع ، يعود إلى مكانه حيت وضعت الصينية ويتنعم بالشاي و الخبز اللذان أنسياه
للحظة شغف النزول والدور البيض .
مرت الاستراحة بسرعة، استرجع الخادم الصينية وعاد الركاب إلى مقاعدهم
واستأنفت الرحلة في اتجاه الدار البيضاء.......
اتكأ الصبي على جنبه الأيمن وأخلد لنوم عميق ونشوة الشاي
تسري في أعماقه ومن يدري لعله خروج من لعنة الجوع في اتجاه فضاء أكثر رحابة ورغدا