السبت، 19 سبتمبر 2020

مدفـــــــــــــون في الغربة

  فكرة هذه القصة استلهمتها من خلال مقتطف لحوار تناهى إلى مسامعي بين شخصين يحتلان طاولة غير بعيدة من تلك التي كنت أشغلها في إحدى مقاهي الرباط حسان، يحكي أحدهما للآخر عن سيدة من معارفه توفيت مند سنوات كانت تملك بقعة أرضية هنا بالجوار حين كان الماء و الخضرة  الطابعان الغالبان قبل أن تكتسحهما الأَسمنت و العمارات، وتحت إلحاح  أحد أبناءها باعت البقعة الأرضية بعدة ملايين  لـتأمين سفره للدراسة بالخارج وبعد مدة قصيرة تضاعفت قيمة الأرض  عشرات المرات لتعد بالملايير، وغاب الأبن ولم يعد فبقيت الأم تتحسر على الأرض التي ضاعت والابن الذي غاب ولم يعد......

انقطعت صلة وصلي بالمتحدثين بسبب تعديل دبدبة الصوت من المصدر ، لأجد قلمي ينسج مساره الخاص لهذه القصة........ 

****************************

جلس على السرير ووضع وجهه  بين كفيه للحظات، ثم اتكأ على جنبه الأيمن يبحث عن نظارتيه ليضعهما على أنفه ويطلق العِنان لبصره كي يتفحص المكان، ظل للحظة  يجول بنظره في قاعة فسيحة تضم ما يناهز أربعون سريرا، وأناس  تتطابق ملامحهم أو تختلف و تتباين أعمارهم وأشكالهم، ومنهم من لآزال  يغظ في نوم عميق ومنهم من يمتد على سريره ويدور برأسه يمينا وشمالا ومن يستعد للنهوض ومنهم من هو قائم يهم بالمغادرة، كما تسيطر على المكان جلبة وضوضاء ومهمهمات وشوشات بين المستيقظين.

 عاد و أخفى محياه بين راحتيه، وهو يتذوق المرارة و الألم لما آلت إليه وضعيتيه، ليجد نفسه في الأخير في مأوى للمشردين.

 يتذوق مرارة الانكسار وهو يتذكر يوم ألح على أمه ببيع الجزء من الأرض الذي تملكه و المطل على الوادي وهو نصيبها المتبقي من عطية زوجها لها ، ممنية النفس باستعادته  فور عودة أبنها عباس طبيب من فرنسا، ومتمنية كذلك بأن يفتح عيادة  تشتغل فيها أخته كممرضة و أخيه كمدير عيادة.   

يتذوق مرارة الهزيمة وهو يتذكر كيف انقلب شغفه ورغبته في الدراسة وتواصله المستمر مع عائلته طوال سنته الجامعية الأولى، إلى فقدان للتركيز وتبخر للحلم وتبدد للطموح وانطفاء لشعلة العودة بشهادة الدكتوراه.

يتذوق مرارة خيبته وهو يجد اسمه ضمن المفصولين من كُلْيَة الطب إثر حصوله على معدل تراكمي اقل من النسبة المحددة مع تجاوز سنوات الرسوب المسموح بها في سنتي التحضير

يتذوق مرارة حاله بالأمس و هو يمشي مترنحا ثملا بعد أن أفرط في الشرب كعادته رغم أنه أقسم مرارا أن لن يعود للشرب ثانية ليجد أن النزول إلى القبو  الذي يأويه أصبح مستحيلا بعد استبدال الباب بسور منيع من مشغله  لعجزه المستمر على تسديد ديونه بسبب استداناته المتراكمة  نتيجة إفراطه في الشرب وتبديد أجره في القمار.... و بعد أن ضاقت به الأرض  بما رحبت وسار بين الأزقة  ومداخل العمارات يبحث عن سقف أو مخبأ ينزوي فيه، صادفته سيارة الشرطة وقد تجاوز الليل منتصفه وبعد مراقبة وضعيته ووثائقه تم إيداعه في هذا المأوى.

وهو يتذوق هذه المرارات تناهى إلى سمعه صوت شابة ترتدي وزرة بيضاء لا يدري أهي ممرضة المركز أو المشرفة عليه، اتجه نحو الفتاة التي وجهته بدورها إلى أقرب باب كتب على واجهته طبيب ومدير المأوى .....

فسحت له للولوج ثم انصرفت بعد أن أوصدت الباب وراءها، ظل واقفا أمام المكتب، بينما الجالس  منشغل بين شاشة الكومبيوتر و المِلَفّ المودع أمامه، أحيانا يأخذ قلما و يكتب أشياء على ظهر المِلَفّ وأخرى يرفع رأسه نحو الواقف، ينظر إليه ويحدق في النظر تم يعود ليستغرق بين الكومبيوتر و الأوراق أعاد رفع رأسه والواقف بدأ يشعر بالدوران، دوران الحَيْرَة و دوران الجوع ودوران موقفه المحرج ثم استسلم لواقعه استسلام المهزوم المنكسر، وفي النهاية قام واقفا وأدن لعباس بالجلوس ثم نطق :

 Bonjour abbés, je suis le Docteur Albert janvier, dite FARAS, tu ne fais plus de foot je pense, mais qu’est ce qui ce passe, nous étions en premier année ensemble à la faculté de médecine et tu étais parmi les brillons de la classe, raconte-moi, qu’est-ce que ne vas pas.

ظل عباس صامتا مهدوما للحظات قبل أن يستعيد نوعا من رِباطَة الجأش ويحكي لزميله القديم في سنته الأولى أو الثانية، كيف هوت به الأقدار إلى نسيان الدراسة وا لتماهي مع انجرافات المتعة وكيف ضاعت به السنين بين المقاهي و المطاعم والكباريهات بين مبذر للمال وغاسل للأطباق.

جلس الطبيب و اعتدل في جلسته وأطرق يفكر واضعا رأسه على كف يده ثم نهض يدور في القاعة يمنة وشمالا ويداه خلف ظهره، عاد إلى كرسييه وسأل عباس

Tu as faim, sans aucun doute, depuis quand tu n'as pas mangé ?

لم ينبس ببنت شفه، كأنه لم يسمع، أو أن لسانه عجز عن الرد، عاد الطبيب للدوران في المكتب، فتح الباب وأشار إلى مساعدته بالاقتراب، همس في أدنيها همسا واستدار إليه يودعه

Jacqueline va s'occuper de toi….. dans un jour ou deux je te trouverai un travail, j'espère que je pourrais t'aider, allez à bientôt

*****************

الساعة قد تكون تجاوزت العاشرة ليلا، في جو شتوي بارد أغلب أحياء المدينة  نائمة أو تتسامر قرب مدفئة البيت  أو تجلب  الدفء من تحت غطاء متين.

المكان محطة حافلات النقل الحضري، المركبات تقوم بجولاتها الأخيرة قبل الركون في مستودعاتها لاستراحة قصيرة، الساحة تكاد تكون خالية إلا من بعض رواد الليل الذين بدؤوا السهر في ليل قد لا ينتهي عندهم إلا بظهور فجر اليوم الموالي …

 على كرسي من كراسي المحطة تجلس مسافرة وحيدة يظهر من زيها وملامحها وحقيبتها أنها طالبة عربية ...

في العمق من مدخل المحطة يظهر عباس بصورة توحي أنه تجاوز الأربعينيات من عمره، باليمنى يحمل مِكْنَسَة و بالشمال دلو أسود وعلى كثفه ثوب لمسح الأرضية، يقترب ببطء والتعب باد عليه يبلل الثوب وينشرها على الأرض ثم يمسح بطرفي المِكْنَسَة لمحو آثار التراب وأعقاب خُطا الأحذية.

الشابة الجالسة في الطرف الآخر تمعن النظر في الكناس وتتفحصه باهتمام، فحركاته تنم على أنه ينوء تحت هم ثقيل.

تهالك على أقرب كرسي وبدأ النعاس يتلاعب بجفونه، انتبه من سباته إلى الجالسة في الطرف الآخر التي لازالت تمعن النظر فيه وتتفحصه باهتمام، يقوم مسرعا من جلسته، يتوقف لحظة ثم بدأت تدور بخلده التساؤلات المرتابة...

-        من تكون هذه الشابة

-        ما بالها تتفحصني

-        لعلها مراقبة متنكرة في ثوب مسافرة

-        يا الآهي  لا ينبغي أن أفقد عملا شرعت للتو فيه

-        يا الآهي ماذا سأقول للدكتور Albert

ما هذه الخيبة التي تتبعني أينما حللت و ارتحلت 

ويستأنف عمله بنشاط متجدد وهو يسترق نظرات خاطفة نحو الشابة، وهي تتفحصه باهتمام يتزايد باستمرار، تفتح محفظتها، تأخذ ورقة وقلم، وتشرع في الكتابة، لعلها تحرر تقريرا ...

تزيد مخاوفه، وتزداد حركاته....وفجأة يقع في المحظور، يدوس قشرة موز فينزلق ويسقط أرضا، هو في جهة وعتاد العمل في الجهات الأخرى، أما النظارتين فهما في جهة غير معلومة …

يزيد اضطرابه وتزداد مخاوفه وتتضاعف هواجسه، ينبطح على الأرض بحتا عن النظارتين، فبدونهما لن يرى شيئا ....تندفع الطالبة نحوه، تساعده على الجلوس،  يرفع نظره اتجاهها ويقول بهمس  غير مسموع :

-        أيتها الشابة كوني رحيمة معي في تقريرك، فأنا حديث العهد بهذا العمل ...

تخرج من جيبها منديلا تمسح به النظارة تم تثبتها فوق أنفه و تعيد تفحص وجهه عن قرب، والدموع تكاد تسيل من خدها لكنها بدلت جهدا واضحا لإخفائها…

تقف الحافلة عند علامة التوقف والانطلاق، تركب الشابة الأوتوبيس، وعباس المسكين يتابعها بنظرة حائرة، تنطلق المركبة وعباس يتابعها، باهتمام وحيرة، ليراها للمرة الأخيرة وهي تتابعه من النافدة الخلفية للحافلة …، ينهض متثاقلا لاستئناف عمله، ينحني لتناول المِكْنَسَة، يسقط شيء منه، يبحث عنه، فإذا هو ظرف، يفتحه وهو يرتعش فهو لا محالة نسخة من التقرير، يجد داخله ورقة مكتوبة بخط عربي، يعاود الجلوس في مكانه، يملأه الفضول، يثبت نظارتيه أكثر ويشرع في القراءة ...

ابن عمي عباس، أنا حليمة ابنة أخوك، أمك رحمة الله عليها، كان أملها الأخير أن تراك طبيبا من خيرة الأطباء وأن تنجز حلمها في فتح عيادة طبية ، تكون آخر مفخرة لها قبل توديع الدنيا .....

بتوصية من المرحومة بحثت عنك كثيرا، استعصى علي أيجاد اسمك ضمن خريجي الكُلْيَة، فسرت أسأل عن دكتور عباس في مستشفيات وعيادات الناحية، دكتور Albert هو أستاذي المشرف على بحثي في طب التشرد وهو من هداني إلى مكانك .........

أعدك  بالنسبة للعائلة، أني لم أجدك ولم أستطيع التعرف عليك كي تبقى في ضميرهم ووجدانهم دكتور عباس الذي هاجر و لم يعد.......

يعيد القراءة عشرات المرات، ثم يضع الظرف في جيبه، ويسترخي في جلسته، فقدماه لم تعودا قادرتين على حمله،

يتنهد تنهيدة من الأعماق ..........................................ويمضي في نوم عميق 


قد يفيــــــــــــق منه وقد لا يفيــــــــــــــــــــــــق

   

هناك 4 تعليقات:

غير معرف يقول...

ما علاقة العنوان بالقصة

RFAKI يقول...

العنوان هو جزء من القصة بطريقة ضمنية يوحي بالنهاية التي كانت مجرد سؤال مطروح في نهاية القصة

غير معرف يقول...

قد يفيق و قد لايفيق نهاية مؤلمة تعيشها العديد من جالياتنا في الغرب التي لم تاخد الامور بجدية مند البداية

غير معرف يقول...

قصة جميلة ابتدأت الفكرة في حي حسان ونسجت في مكان ما من فرنسا لعلها باريس وبقيت النهاية يحددها خيال القارئ

و بسرعة البرق تمضي الحياة

نص جميل خطر ببالي أدهلني ، تركت كل ما بيدي لأعيد صياغته وكأني  باليوم بدء  للتو ..... الساعة السادسة مساءً بسرعة بالكاد وصل يوم الاثنين ن...